الرئيسية / المقالات / كلمة الافتتاح لندوة قضايا الزكاة المعاصرة 17

كلمة الافتتاح لندوة قضايا الزكاة المعاصرة 17

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة رئيس الهيئة العالمية لقضايا الزكاة المعاصرة

الندوة السابعة عشرة

الشيخ عجيل جاسم النشمي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة رئيس الهيئة الشرعية العالمية لقضايا الزكاة المعاصرة

أ.د. عجيل جاسم النشمي

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونصلي ونسلم على المبعوث سلاماً وأمناً وزكاة وهداية للعالمين وعزاً للمسلمين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد ،،،

فالحمد لله الذي قدَّم أهل العلم على من سواهم ، وأعلا شأنهم وسما بمقامهم في الدنيا ووعدهم مكانة سامية في الآخرة ، فقال عز من قائل : ” يرفع الله الذين آمنوا منكم والذي أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ” ( المجادلة 11).

وأعلا الله قدر الحاكم العادل أيضاً حتى ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في أول السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، وقال صلى الله عليه وسلم : ” إن المقسطين على منابر من نور : الذي يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلّوا ” (رواه مسلم) ، ولا يقوم العدل إلا بتطبيق شرع الله عز وجل ، وأخص ما في هذا التطبيق مما هو ألصق بمقامنا إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

والحمد لله الذي وسعت وعمت رحمته الذين يؤتون الزكاة وكتبها لهم في الآخرة فقال : ” ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون “. الأعراف :156

المعني الثاني : أن من أخرج من وطنه يستحق نصرة الله له :

وذلك في قوله تعالى : ) إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ( ([1]) .

فالأصل أن المرء يعيش في وطنه معززا مكرما ، ولا يخرج منها إلا بسبب يحمله على ذلك حملا إما طلب الرزق أو السعة فيه بالتجارة أو طلب العلم ونحو ذلك ، وأشد ما يكون ضررا وألما أن يخرج من وطنه جبرا وظلما ، والنبي r أخرج من بلده مكة جبرا وظلما ، فخرج مهاجرا

استجابة لأمر الله ونصرة لدينه ، رغم ما في الهجرة من آلام نفسية ، فاستحق تأييد الله له ونصرته ، وهذه النصرة يستحقها  كل من قام مقام رسول الله r وامتثل فعله فأخرج أو خرج من أرضه نصرة وإعزازا  للدين . متحملا ما في الهجرة من آلام نفسية ومادية في سبيل الله كما قال الشيخ السعدي : الهجرة : مفارقة المحبوب المألوف لرضا الله تعالى فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقربا إلى الله ونصرة لدينه ([2]) .

المعنى الثالث : حب الوطن والحفاظ عليه قرين حب النفس والخوف عليها من الهلاك :

وذلك في قوله تعالى : ) ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ( ([3]) ، واقترن في موضع آخر بالدين : ) لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ( ([4]) ، فانظر كيف كادت درجة الإخراج من الأرض أن تصل درجة إزهاق الروح فلو أن الله أمرهم أن يقتلوا أنفسهم أو أنه أمرهم أن يخرجوا من ديارهم فهو ابتلاء متكافئ لما أقدموا على أي من الأمرين ، ومن ذلك مكر الكافرين بالنبي r في أمور متكافئة في الظلم والجبروت من الصلب حيا أو القتل أو الطرد من الوطن قال تعالى : ” وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ” . قال الطبري : فتأويل الكلام واذكر يا محمد نعمتي عندك بمكري بمن حاول المكر بك من مشركي قومك بإثباتك أو قتلك أو إخراجك من وطنك حتى استنقذتك منهم وأهلكتهم فامض لأمري في حرب من حاربك من المشركين وتولى عن إجابة ما أرسلتك به من الدين القيم ولا يرعبنك كثرة عددهم فإن ربك خير الماكرين بمن كفر به وعبد غيره وخالف أمره ونهيه ([5]) .

المعنى الرابع : أن من حب الوطن الدعاء له بالأمن وسعة الرزق:

ومن ذلك قوله تعالى : ) وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ( ([6]) .

والآية نص في مشروعية الدعاء وفي تعليم المسلمين والناس عامة الدعاء لأوطانهم فهذا من واجب الوطنية ، وخير دعاء الدعاء بالأمن وسعة الرزق كما دعا إبراهيم عليه السلام .

قال القرطبي : قوله تعالى: ) بَلَداً آمِناً ( يعني مكة؛ فدعا لذرّيته وغيرهم بالأمن ورغد العيش. وقال الشيخ الفاضل بن عاشور : لقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة ، فإن أمن البلاد والسبُلِ يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن بدونها، وهو يستتبع التعمير والإقبالَ على ما ينفع والثروةَ فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختلت الثلاثة الأخيرة، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام .

الوطن والمواطن حقوق وواجبات :

إن كل حق يقابله واجب ، وما لم يقم كل طرف بواجبه يتعذر أن يعطى حقه كاملاً ، فالدولة صاحبة السيادة يربطها وشعبها عقد الولاء والسيادة ، وهو في الشريعة كما قال الماوردي : سياسة الناس في أمور دينهم ودنياهم ، فواجب الدولة رعاية مواطنيها ، ومن هو مقيم على أرضها ، والرعاية تعني توفير سبل العيش الكريم ، من وظيفة ومسكن ، وحياة كريمة ، وينظم هذه العلاقة دستور وقانون .

ويقابل هذا الواجب على الدولة حقوق لها على مواطنيها ومن يقيم على أرضها ، وهو الالتزام باحترام النظم والقوانين ، والعمل الإيجابي في غرس مفاهيم الوطنية ، ونبذ العصبية أياً كان نوعها مما يعكر صفاء العلاقات ، ويورث الخلاف والفرقة ، وهما سبب من أهم أسباب تفكك المجتمعات ، ومن ثم الاضطرابات والانقسامات ، وهما أسرع طريق لانهيار الدول .

فإن لحمة المجتمعات وسداها تآلف أفرادها وتعاونهم في سبيل نهضة وطنهم وتوحيد انتمائهم وهويتهم في دولة واحدة وقانون ودستور واحد .

ومن هذا الجمع بين الواجبات ومقابلتها بالحقوق تتفرع العلاقات ، وتبنى الجسور النظامية والعاطفية بين المواطن والوطن ، أو بين الشعب والحكومة أو السلطة ، ولابد من توضيح معالم هذه العلاقات ، ولعل أهم مضامينها ما يأتي :

أولاً : الحفاظ على الهوية :

ولا ينبغي الاختلاف في ذلك ، فإن الاختلاف في تحديد الهوية يعني ضياعها ، ثم السير بلا هدف ، ويعني ضياع الجهود ، والتخبط في المسير ؛ لأنه مسير لا إلى هدف ، وإن مما لا خلاف فيه أن هويـة بلادنا العربية هي العروبة والإسلام ، ولا أصنفهما مفهومين متباينين ، بل هما متكاملان ، بل قل إنهما متلاحمان ، فالعروبة الانتماء للعرب ، والإسلام دين العرب كلهم إن لم يكن أغلبهم ، فالإسلام هو الذي يشكل هوية العرب ، وعرفهم العالم به ، فكان التعبير بأحد الوجهين يعني الآخر ، فهو بعدهم التاريخي والحضاري ، فالإسلام عنوانهم بكل ما يحمل من مفاهيم وتعاليم وعقائد ، ولا يعني هذا انتفاء مواطنة العرب غير المسلمين ، لا بل هم مواطنون لهم من الحقوق ما لغيرهم ، ويتوحدون في ولائهم للدولة ، وعليهم من الواجبات ما على غيرهم ، واختلاف الدين لم يكن سبب الفرقة في تاريخ المسلمين ؛ لأنه دين قام على احترام المعتقدات ، فالكل مواطنون لهم مالهم وعليهم ما عليهم ، لكن الهوية الغالبة التي تعمل الدساتير التي تنص على أن دين الدولة الإسلام ، هي الهوية الإسلامية ، التي تحمل المعاني الخيرة المشتركة من احترام الآخر ، وبث روح الإخاء والفضيلة ، واحترام القوانين المنظمة للعلاقات المحددة للحقوق والواجبات .

الحفاظ على الهوية شأن الدولة في نظمها وقوانينها وسلطاتها الثلاث متكاملة ، ثم هو شأن المواطنين والمقيمين في الوقت ذاته أن يتحملوا مقابل ذلك في الولاء ، والامتثال واحترام الدين والتقاليد والعادات الحميدة التي هي من سمات هويتهم الوطنية والخلقية .

 

 

ثانياً : الشعور بالانتماء :

العلاقة المتبادلة بين الوطن والمواطن مبناها شعور المواطن بالانتماء لوطنه ، هذا الشعور ليس مادة توهب أو تشترى ، أو يتلقاها درساً عابراً ، إنما هي عملية تراكمية تنشأ مع الفرد منذ ولادته على هذه الأرض ، ومشيه المتدرج على أرضها طفلاً فشاباً فرجلاً ، في مراحل تربيتة أسرياً ومدرسياً ومجتمعياً ينمو هذا الشعور بنموه في مراحل حياته كلها ، وإبان ذلك يغذى بحب هذا الوطن الذي عاش وتربى فيه ، وتكونت له فيه ذكريات ومواقف .

ومن جانب آخر يغذي هذا الشعور عوامل من أهمها الدين ، ويتفاعل معها طفلاً وشاباً ورجلاً ، وطفلة وشابة وامرأة ، زوجة وربة بيت ، كما يغذي هذا الشعور إلى جانب الدين اللغة والثقافة والعادات والتقاليد ، أو قل التراث القديم والحاضر ، وبمجموع ذلك تتكون لحمة الانتماء للأرض أو الوطن الذي يعيشه ، وبهذا الشعور تنمو لديه الإيجابية الذاتية ، فيخلص في عمله بقدر إخلاص حبه وولائه ، أو هكذا ينبغي أن يكون .

هذا الشعور هو الذي تجيش به النفس حين يفارق وطنه إلى بلد لم يتكون له فيه رصيد من المعايشة والتفاعل والذكريات ، وهذا هو المعنى الذي سنراه قريباً في تأصيل هذه المعاني في الآيات الواضحات ، وفي أقول وفعال ومواقف النبي r وصحبه الكرام . وهذا الشعور ينمو بغض النظر عن المواقف السلبية التي قد تواجـه المرء في بلده ، فقد يطرد من بلده طرداً ، وقد تصادر أمواله ، ويؤذى في نفسه وماله ودينه ، ومع ذلك فهذا الشعور لا يخفت ولا يخبو ، بل قد يضطر أو يختار جنسية الدولة التى استقر فيها مقامه ، ومع ذلك فإن ميله وحبه إلى بيته الأول بعد قويا جياشا . 

 



 

 

أيها الفقهاء والعلماء  ، أيها الحضور الكرام :

نجتمع اليوم في هذا البلد الكريم أهله ، الخصيب أرضه ، العلي مكانه وقدره ، كرمه الله بجريان نهر أوحى الله إلى جبريل ذكره ، وجرى على لسان خير الخلق تعظيمه ، وفي أجل موقف وأعلا مقام وصل إليه نبي أو رسول : ليلة المعراج عند سدرة المنتهى قال صلى الله عليه وسلم حين رأي أربعة أنهار ، نهران باطنان ونهران ظاهران : ” فسألت جبريل فقال : أما الباطنان ففي الجنة ، وأما الظاهران النيل والفرات … ” ( رواه البخاري 30216).

وكم يسعدنا اليوم أن نجتمع في هذا البلد العزيز شأنه ، الشجعان حماته وجنده ، كنانة الله في أرضه، يا من ادخركم الإسلام ذخراً وفخراً عند المدلهمات , وأكرم به من بلد كرمه المولى في كتابه فذكر فيه مصر في أربعة وعشرين موضعاً ، أربعة منها بلفظ مصر صريحاً والبواقي إشارة أودلالة   ، ولكم أن تفخروا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بكم قبل أن تكونوا مسلمين فكيف بكم بعد الإسلام حيث قال : ” ستفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيراً ، فإن لهم ذمة ورحما ” ( رواه مسلم وأحمد (5/147) ، فأنتم أخوال والد عرب الحجاز إسماعيل عليه السلام . قال ابن كثير المراد بالرحم : أنهم أخوال إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام ، وأمه هاجر القبطية ، وهو الذبيح على الصحيح، وهو والد عرب الحجاز الذين منهم إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمه مارية القبطية.

ولكم بل عليكم أن تفخروا بمن وطئت أقدامهم أرض مصر يوم فتحها من كبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، فمن قريش من المهاجرين : الزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعمرو بن العاص ، وكان أمير الفتح ، وخارجة بن خذافة العدوي ، وعبدالله بن عمر بن الخطاب ، وقيس بن أبي العاص السهمي ، والمقداد بن الأسود ، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح العامري ، ونافع بن أبي قيس الفهري ، وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابن عبدة وعبدالرحمن وربيعة إبنا شرحبيل بن حسنة ، ووردان مولى عمرو بن العاص ، وكان حامل لواء عمرو بن العاص .

 ومن الأنصار عبادة بن الصامت ، وقد شهد بدراً وبيعة  العقبة ، ومحمد بن مسلمة الأنصاري ,قد شهد بدراً ، ومسلمة بن مخلد الأنصاري ، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وهؤلاء من المهاجرين والأنصار ممن شهدوا الفتح ، وأما من دخلها بعد الفتح جمع كبير جداً ، وناهيك عمن دخلها من القادة والفقهاء المجتهدين والعلماء ممن لا يحصى عددهم. وقبل هؤلاء جميعا فقد شرفها عدد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبورهم شاهدة.

وقبل هذا أيضا فمصر بلد مبارك من قديم كما قال الكندي : جبلها مقدس ، ونيلها مبارك ، وبها الطور حيث كلم الله تعالى نبيه موسى ، وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه ، وبها فلق الله البحر لموسى ، وبها ولد موسى وهارون عليهما السلام ، ويوشع بن نون ودانيال وأرميا ولقمان وعيسى بن مريم ، وبها النخلة التي ذكرها الله تعالى لمريم ، وكان فيها إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعقوب ويوسف واثنا عشر سبطاً .

وإنما نذكر هذا التاريخ الناصع ، تاريخ مصر ومكانتها السامية في الإسلام لنبين أن لهذا ضريبة ولنربط بين مصر العزيزة وواجبها تجاه المسلمين قاطبة ، وواجبها تجاه القدس ، تجاه فلسطين الجريح وغزة وما تعانيه من تنكب القريب والبعيد ، وسيادة يهود أرذل الخلق ، وأشر من دب على الأرض ، بشهادة كتاب الله  وأحمد شوقي يستنهض الهمة و يؤكد :

يا مصـــر أنت كنانة الله التي

 

لا تُســـباح وللكنانة حــــام

عبست إلينا الحادثات وطالمـــا

 

نزلت فلم نغلب على الأحــــلام

قل للحوادث أقدمي أو أحجمــي

 

إنا بنو الإقدام والإحجــــــام

الوارثون القدس عن أحبــــاره

 

والخالفون أمية في  الـشــــام

الحاملون الفصحى ونور بيانهـا

 

يبنون فيه حضـــارة  الإسـلام

       نعم مصر رأس حربة الإسلام والمسلمين على مدى التاريخ ، عزها عزهم  وذلها ذلهم ، وصدق من قال :

” أنا إن قدر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي “

 ومصر لن تموت وفيها الأزهر   وفيها شعب جياش العواطف أغير .

 فعلى قدر هذا التاريخ الناصع تكون مسئولية مصر تجاه الإسلام والمسلمين اليوم.

       وخلاصة الدرس ” أن الله قد أعزنا بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ” ، فعزنا ونصرنا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، تلك حقيقة إيمانية و تاريخية ثابتة .  وقد تعهد الله لنا بالعز والنصر واشترط وشرطه جل وعلا إيمان صادق ونصرة لدينه . فقال عز من قائل : ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ” سورة محمد: 7  

وما نقول ما قلنا إلا من باب النصح الذي أخذ الله به العهد على أهل العلم في البيان وعدم الكتمان ، وهذا شأن المؤمنين كما قال الإمام علي رضي الله عنه : ” المؤمنون قوم نصحه ينصح بعضهم بعضاً ، والمنافقون قوم غششة ، يغش بعضهم بعضاً “.

      

أيها الفقهاء العلماء حملة الدين :

نجتمع في هذا اليوم المبارك لنسعد بمشاركة ثلة طيبة منكم من العلماء والفقهاء تداعوا من بلاد عديدة لها تاريخها ومكانتها السامقة في الإسلام أيضا ففيهم من جاؤا من بلاد باركها الله وما حولها من بلاد الشام ،ومنهم من جاءوا من المغرب العربي ومن مشرقه ، بل فيهم من جاءوا من أشرف البقاع على الإطلاق من أرض الحرمين الشريفين ، تلبية لنداء الله عز وجل ، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم ليشرفوا بالعمل على إقامة ركن من أركان الإسلام ركن الزكاة ، الركن الاجتماعي المالي ، الذي يحتاج في هذا العصر خاصة إلى جهود الفقهاء والاقتصاديين والمحاسبين على حد سواء لحل معضلات تطبيقة في واقع الأفراد والشركات والمؤسسات وغيرها على المستوى المحلي والعالمي الإسلامي .

أيها الحضور السعداء :

إن وضع الزكاة في يد مستحقيها استثمار للأمة بأكملها ، تنمية للفقراء ، ولأموال الأغنياء ، وللمجتمع ، وقد ينفع الله المجتمع والأمة بفقير تُسَدَّ جوعته فيتعلم وينبغ ، فكم من فقير نابغة بين جيوش الفقراء تلك ، وكم عالم متميز دفين الجوع والظلم ، لو وجد وقتاً للدرس والتعلم لأفاد الأمة بإبداعه أو اختراعه ، وأنا له ذلك ، وانشغاله بسد جوعته ، وذُل السؤال ، أو مقاومة الظلم قد أخذ عليه وقته كله ، بل شغله الفقر الكافر حتى عن حسن عبادته ، ولذا يقول الإمام أبو حامد الغزالي حجة الإسلام : ” من كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة ، وطلب قوته من وجوه الغلبة ، متى يتفرغ للعلم والعمل ، وهما وسيلتان إلى سعادة الآخرة ، إن نظام الدنيا شرط لنظام الدين “. ويقول ابن خلدون : ” إن الملك إذا كان قاهراً باطشاً منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شَمٍلهُمُ الخوف والذل ، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة ، فتخلقوا بها ، وفسدت بصائرهم .. إن الاستعباد يؤدي إلى إسراع الفناء إلى الأمة المستعبدة بسبب ما يحصل في النفوس من التكاسل فيقتصر الأمل ويضعف التناسل ، فإذا ذهب الأمل بالتكاسل تناقص عمرانهم ، وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم “.

       أيها الحضور الكرماء :

إن الزكاة عماد وركن من أركان هذا الدين القويم ، وهي ركن اجتماعي مالي ، وإن كانت تذكر في زمرة العبادات ، إلا أن الفقهاء فصلوا أحكامها في كتب الأموال والسياسة الشرعية ، وقد كانت تشغل حيزاً كبيراً في اقتصاد الدولة الإسلامية على مدار التاريخ ، وهي في الوقت ذاته من أمضى أدوات حرب الربا ، إذ هي عون للفقراء والمساكين والغارمين تحجزهم عن الحرام الخبيث ، فتسد غائلة الجوع وذل الدين  .

       فإيتاء الزكاة على مستوى الأفراد والشركات وسائر المؤسسات المالية نصرة للدنيا والدين لأنها حرب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الربا آفة المجتمعات اليوم ، ومن جانب آخر فإن الزكاة أداة تنمية بكل المقاييس الاقتصادية الحديثة ، مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم : ” ما نقص مال من صدقه ” ( رواه الترمذي ) ، فيقرر أهل الاختصاص اليوم بأن وعاء الزكاة يرتبط بالنشاط الاقتصادي ، وأن معظمه يتكون من الدخل أو الناتج المتولد من استخدام عناصر الإنتاج المتاحة في المجتمع ، ومن ثم فإن حصيلة الزكاة ترتبط ارتباطاً وثيقاً وطردياً بمستوى النشاط الاقتصادي القائم في المجتمع ، وبما أن النشاط الاقتصادي غالباً ما يكون في حالة نمو وتزايد مهما ضعفت معدلات نموه ، فإن ذلك يعني أن حصيلة الزكاة تنمو وتتزايد مع نمو النشاط الاقتصادي ، وغالباً ما تقتطع الزكاة كجزء من ذلك الناتج السنوي للنشاط الاقتصادي ، لذا فإن من خصائص الزكاة أنها لا تأكل وعاءها ، بل العكس تزيد من معدلات نمو النشاط الاقتصادي ، مما يترتب عليه استمرارية نمو حصيلة الزكاة ويكون المال دولة بين الأغنياء والفقراء ، ولعل هذا سر قول النبي عليه الصلاة والسلام السابق ذكره : ” ما نقص مال من صدقة “.

       وأخيراً أيها الحضور الكرام  :

       نختم بما بدأنا به بالشكر العميم لله تعالى ثم لمضيفينا الكرام أعزهم الله وأعز بهم دينه ، وللعلماء من داخل مصر، ومن تجشموا عناء السفر ، ولكل من ساهم في هذا اللقاء المبارك  ، ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يهيئ إيتاء الزكاة على مستوى الأفراد والشركات والدول وأن يبطل بها الربا على مستوى الإفراد والشركات والدول ،” ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ” ( الروم : 5)

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

                                                                           أ.د. عجيل جاسم النشمي

 

                                                                        رئيس الهيئة الشرعية العالمية

                                                                        لقضــــايا الزكاة المعاصــــــرة

 



([1]) التوبة : 40 .

([2]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1 /89 ، للشيخ  عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، دار النشر : مؤسسة الرسالة – بيروت – 1421هـ- 2000م ، تحقيق :الشيخ ابن عثيمين .

([3]) النساء : 66 .

([4]) الممتحنة : 8 .

([5]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (9/230) ، للإمام محمد بن جرير الطبري ، دار النشر : دار الفكر – بيروت – 1405 هـ .

([6]) البقرة : 126 .

شاهد أيضاً

الوطن والمواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية

الوطن والمواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية

التحوط في المعاملات المالية

بحث التحوط في المعاملات المالية

تحويل البنوك التقليدية لبنوك اسلامية ( المبادئ والضوابط والإجراءات )

تحويل البنوك التقليدية إلى بنوك اسلامية