الرئيسية / قضايا الساعة / تعليق على موضوع الغرر المانع من صحة المعاملة ومقداره

تعليق على موضوع الغرر المانع من صحة المعاملة ومقداره

مقدم

للمؤتمر الرابع للهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية

المنعقد في مملكة البحرين في الفترة من

19-20 شعبان 1425 هـ الذي يوافقه 3-4 أكتوبر 2004

 

تقـــديم

      قال الإمام النووي : النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع ، ولهذا قدمه مسلم ، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة.

      والغرر داخل في جملة العقود المحرمة ، قال الإمام ابن تيمية : الأصل في ذلك أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل ، وذم الأحبار والرهبان  الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، وذم اليهود على أخذ الربا وقد نهو عنه ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات، وما يؤخذ بغير رضى المستحق والاستحقاق.

      فأكل المال بالباطل في المعاوضات نوعان ، ذكرهما الله في كتابه  وهما : الربا والميسر، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه، فنهى عن بيع الغرر كما رواه مسلم ، وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

      والغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر ، وذلك أن العبد إذا أبق ، والبعير أو الفرس إذا شرد فإن صاحبه إذا باعه إنما يبيعه مخاطرة ، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير ، فإن حصل له ، قال البائع ، قمرتني وأخذت مالي بثمن قليل ، وإن لم يحصل ، قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن بلا عوض ، فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء ، مع ما فيه من أكل المال بالباطل ، الذي هو نوع من الظلم ، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء([1]).

هذا وإن المؤسسات المالية الإسلامية أحوج ما تكون إلى تجنب الغرر في المعاملات المعاصرة والمستجدة منها على وجه الخصوص كالمرابحة المركبة والعقود المترابطة في عقد واحد ، والإجارة المنتهية بالتمليك وعقود الاستيراد والتصدير وعقد الاستصناع أو المقاولات والمضاربات المحلية والدولية والتعامل بالعملات والحوالات وخطابات الضمان والاعتمادات المستندية ، وغيرها مما لا يخلو عند التحقيق من غرر كثير مؤثر أو يسير غير مؤثر ، وفي تحديد مدى الغرر ومقداره تختلف أنظار الفقهاء في الهيئات الشرعية ، الأمر الذي يجعل تحديد أو وضع ضوابط للقدر المؤثر من الغرر في المعاملة وغير المؤثر ضرورة لازمة لتخليص المعاملات من شبهات الغرر أو الجهالة أو المقامرة.

      ولقد كلفت بالتعليق على هذا الموضوع فوافقت ولم أكن أعلم أن البحث    – الوحيد – الذي وصلني لمولانا فضيلة الشيخ العلامة البروفسور الصديق محمد الأمين الضرير ، ولقد كرهت أن أضع نفسي هذا الموضع وأن أرتقي هذا المرتقى الصعب ، ولكن لم يكن لي خيار الاعتذار بعد الموافقة. وقد جعل الله في هذا المكروه خيراً كثيراً أن اطلعت على البحث والكتاب الأم الذي استل منه الشيخ الصديق الضرير بحثه وهو كتابه ” الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي ” فاستمتعت به متعة تامة ولا يخفى أنه كتاب شاع صيته وذاع في المحافل العلمية حتى حاز جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية ، وهو أول كتاب يقدم نظرية متكاملة عن الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي”.

      وإن عملي في هذه الورقات إنما هو التعليق على موضوعات البحث لا على البحث ، فأنظر في المسألة التي أبدى فيها الشيخ حفظه الله رأيه فأبدي فيها رأيي ما وجدت فسحة أو متسعاً للرأي المخالف ، فلربما أصيب حسب ظني ، ولربما أخطأ ، ولا أدري أيهما أغلب.

      وقد تناولت في هذا المقال التعليق على المسائل الآتية :

أولاً : الخلاف في تعريف الغرر اصطلاحاً.

ثانياً : أقسام الغرر.

ثالثاً : مقدار الغرر المانع من صحة المعاملة.

رابعاً : شرط الحاجة المعتبرة أن تكون متعينة.

خامساً : الخاتمة في اقتراح ضوابط ” الغرر المانع من صحة المعاملة ومقداره”.


 

أولاً :  تعريف الغرر لغة :

الغَرَرُ الخطر ، وغرَّه يَغَّره يَغَّرُه بالضم غروراً ، خدعه ، والتغرير حمل النفس على الغرر([2]).

تعريفه اصطلاحاً :

اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الغرر ، ويجمعها المعني العام للغرر وهو جهالة ما يؤول إليه عاقبة العقد ، ولعل أجود تعريف له هو تعريف ابن عرفه حين قال : قال المازري : الغرر ، هو ما تردد بين السلامة والعطب ، ولما لم يرتض التعريف عرف الغرر بأنه : ” ما شُكَّ في حصول أحد عوضيه أو مقصوده منه غالباً”.

وهذا التعريف جامع لأفراد الغرر ، ومانع من دخول غيره فيه فقوله : ” ما شُكَّ ” ما صادقة على البيع أيَّ بيع وهو جنس الغرر ، وقوله ” في حصول أحد عوضيه ” مثل بيع البعير الشارد أو الجنين ، ويدخل فيه فاسد بيع الجزاف فإنه فيه شّكَّ في حصول عوضه ، وقوله ” أو مقصود منه غالباً ” معطوف على حصول معناه أو ما شك في مقصوده من ذلك الشيء غالباً ، احترز به من الغرر اليسير كدخول الحمام مع اختلاف قدر الماء فإنه لم يقع شك في المقصود منه غالباً “، وهذا التعريف يشمل المجهول ، سواء المجهول المطلق ، أو المعين ، لكن جهلت صفته أو قدره.

وأما التعاريف الأخرى فإما أنها غير جامعة أو غير مانعة ، ومنها التعريف الذي ارتضاه فضيلة الشيخ الصديق الضرير ، وهو أن الغرر : ما كان مستور العاقبة ، وترجيح هذا التعريف مبني على أن التعاريف تنحو إلى ثلاثة اتجاهات – كما قال الشيخ – :

أحدها : يجعل الغرر مقصوراً على مالا يدري أيحصل ، أم لا يحصل ، ويخرج عنه المجهول ، إذا المجهول معلوم الحصول بخلاف الغرر ، كما قال القرافي ” الغرر ما لا يدري هل يحصل أم لا كالطير في الهواء ، والسمك في الماء ، والمجهول هو ما علم حصوله وجهلت صفته ” ([3]).

ثانيها : يجعل الغرر مقصوراً على المجهول ، ويخرج عنه ما شك في حصوله.

ثالثها : يجمع بين الاتجاهين الأولين ، فيجعل الغرر شاملاً لما لا يدري حصوله وللمجهول.

وتعريف الشيخ الصديق الضرير الذي يميل فيه إلى رأي أكثر الفقهاء غير مانع من حيث إنه يدخل فيه الغرر اليسير وليس مراداً في التعريف وهو مستور العاقبة ، كما لم يبين التعريف محل الغرر ، وهو في عقود المعاوضات.

فالتعريف في حاجة إلى قيود أو محترزات.

ولعل الحاجة إلى هذه القيود هو ما جعل الشيخ يبين سبب اختياره هذا التعريف على غيره حيث قال : وقد فضلته على غيره من التعريفات ؛ لأنه أجمعها للفروع الفقهية التي أدخلها الفقهاء تحت الغرر ، مع قلة كلماته . فالاختيار لهاتين الفائدتين يستحق الترجيح ، وخاصة إذا كان المقصود من تعريف الغرر تعريفه بالرسم.


 

ثانياً : أقسام الغرر :

      الغرر ثلاثة أقسام :

      أولها : ممتنع إجماعاً كطير الهواء ، وسمك الماء.

وثانيها : جائز إجماعاً كأساس الدار المبيعة ، وحشو الجبة المغيبة ، ونقص الشهور ، وكمالها في إجارة الدار ونحوها ، واختلاف الاستعمال في الماء في دخول الحمام والشرب من السقاء.

وثالثها : مختلف في إلحاقه بالأول ، أو بالثاني([4]). وقال ابن تيمية : الغرر ثلاثة أنواع ، أولها : المعدوم ، كحبل الحبلة ، واللبن ، وثانيها : المعجوز عن تسليمه ، كالأبق ، وثالثها : المجهول المطلق ، أو المعين المجهول جنسه ، أو قدره كقوله : بعتك عبداً ، أو بعتك ما في بيتي([5]).  وقسمه العز ابن عبدالسلام إلى ثلاثة أيضاً . أحدها : ما يعسر اجتنابه كبيع الفستق والبندق والرمان والبطيخ في قشورها فيعفى عنه ، والثاني : ما لا يعسر اجتنابه فلا يعفى عنه، والثالث : ما يقع بين الرتبتين وفيه اختلاف ، منهم من يلحقه بما عظمت مشقته ، لارتفاعه عما خفت مشقته ، ومنهم من يلحقه بما خفت مشقته لانحطاطه عما عظمت مشقته ، إلا أنه تارة يعظم الغرر فيه فلا يعفى عنه على الأصح كبيع الجوز الأخضر في قشرته ، وتارة يخف العسر فيه لمسيس الحاجة إلى بيعه فيكون الأصلح جوازه كبيع الباقلاء الأخضر في قشرته([6]).  كما أن التغرير قد يكون قولياً أو فعلياً([7]).

 

ثالثا : مقدار الغرر في 000000 المعاملة :

      لقد قرر فضيلة الشيخ الصديق الضرير إجماع الفقهاء على أن الغرر الذي يؤثر في العقد هو الغرر الكثير ، أما الغرر اليسير فلا تأثير له مطلقاً . وأن الاختلاف الحاصل بين الفقهاء في كثير من المسائل لا يرجع إلى اختلاف في أصل القاعدة ، وإنما يرجع إلى اختلافهم في تطبيقاتها ، وهذا الاختلاف يكون في الحالات الوسط التي يتردد فيها الغرر بين الكثير واليسير ، فيلحقه فقيه بالكثير فيفسد به العقد ، ويلحقه فقيه آخر باليسير فيصحح العقد.  ولا ريب أن هذا الاختلاف الذي ذكره الشيخ يمثل مشكلة عملية خاصة إذا كان الخلاف في التطبيق بين المؤسسات المالية الإسلامية ، وهي لها هيئات شرعية . الأمر الذي تحتاج معه حسب رأي الشيخ إلى تحديد واضح للغرر الكثير المفسد للعقد ، والغرر القليل غير المفسد للعقد.

      ولقد عرض الشيخ حفظه الله لإمكان وضع ضابط للغرر الكثير والغرر اليسير وناقش ذلك بقوله :

      الكثرة والقلة في الغرر من الأمور النسبية التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والأنظار ؛ ولهذا فليس من السهل وضع حد فاصل بين الغرر الكثير الذي يؤثر في العقد ، والغرر اليسير الذي لا يؤثر ، وهذا هو سبب اختلاف الفقهاء في مسائل الغرر.

      وقد رام بعض الفقهاء وضع ضابط للغرر الكثير ، والغرر اليسير  منهم الباجي فهو يرى : أن الغرر اليسير هو ما لا يكاد يخلو منه عقد ، والغرر الكثير هو ما كان غالباً في العقد حتى صار العقد يوصف به.

      واضح أن هذا الضابط لا يضع حداً فاصلاً بين الكثير والقليل ، لأن بين الغرر الذي لا يكاد يخلو منه عقد ، والغرر الذي يتمكن من العقد حتى يوصف العقد به مسافة واسعة يتسع فيها المجال للاختلاف.

      ومنهم محمد على ، صاحب تهذيب الفروق ، فقد قسم الغرر ثلاثة أقسام :

أحدها : ما لا يحصل معه المعقود عليه أصلاً.

الثاني : ما يحصل معه المعقود عليه دنيا ونزراً.

الثالث : ما يحصل معه غالب المعقود عليه.

      ثم قال يجتنب الأولان ويغتفر الثالث.

      وهذا التقسيم يقابل تقسم الغرر إلى كثير وقليل ، فالقسم الأول والثاني يقابلان الغرر الكثير ، والقسم الثالث يقابل الغرر اليسير ، غير أن هذا التقسم غير واضح المعنى ، وهو مع ذلك غير شامل لكل أنواع الغرر – فيما يظهر لي – لأنه يدور حول حصول المعقود عليه وعدم حصوله ، مما يشعر بأن قائله يتحدث عن الغرر في وجود المعقود عليه فقط.

رأي الشيخ الصديق الضرير في ضابط الكثرة والقلة :

      يقول الشيخ حفظه الله : أرى أن وضع ضابط محدد للغرر الكثير ، والغرر اليسير في وقت واحد أمر غير ميسور ؛ لأننا مهما فعلنا فسنجد أنفسنا قد حددنا الطرفين ، وتركنا الوسط من غير تحديد مما يؤدي حتماً إلى الاختلاف ؛ ولهذا فإني أرى سلوك أحد المسلكين الآتيين :

المسلك الأول : أن نترك هذه المعايير المرنة – الغرر الكثير ، واليسير ، والوسط – كما هي ، تفسر حسب الظروف والأحوال واختلاف العصور والأنظار ، ولهذا المسلك مزيته ، وهي أنه يجعل نظرية الغرر نظرية مرنة تساير الحضارات المتطورة في كل عصر ، مما يجعلها صالحة للبقاء والتطبيق في جميع الأزمنة والأمكنة ، وقد أيد الدكتور السنهوري وضع الفقهاء لهذه المعايير المرنة للغرر ، وعدها حسنة من حسنات الفقه الإسلامي.

رأينا في هذا المسلك :  هذا المسلك يفضي إلى مرونة تصل إلى نفي أي تحديد للغرر ، وما كان مطلقاً لا يصلح أن يكون ضابطاً أو مسلكاً ، وهذه المرونة المطلقة الشأن فيها أن تؤدي إلى خصومة ونزاع في الغرر الكثير المؤثر في العقد ، وما كان كذلك فهو مردود لوجود علة النهي عن بيع الغرر ، وهو مردود ولو قبله عرف بلاد أو زمن او ظرف ، فليس كل غرر مقبول عرفاً هو كذلك في الشرع ، ولذا فإن هذا المسلك قد يكون مقبولاً خارج أحكام وقواعد الشرع ، فقد يتغافر الناس في الغرر الكثير المؤثر ، بل لا يمنعون العقود القائمة على الغرر ، كعقد التأمين والقمار ونحوهما ، فلابد من قيد للغرر الكثير حتى لا يأتي على أصل العقود بالإبطال. والمحرم لا يحله الاتفاق والتراضي ، ولذا قال الإمام الشافعي : كل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم مما كان ممنوعاً إلا بحادث يحدث فيه يحله فأحدث الرجل منه حادثاً منهياً عنه لم يحله ، أو كان على أصل تحريمه إذا لم يأت من الوجه الذي يَحِلُّ ، وذلك مثل أن يشتري الرجل شراء منهياً عنه ، فالتحريم فيما اشترى قائم بعينه، لأنه لم يأته من الوجه الذي يَحِلُّ منه ولا يحل المحرم([8]) ، وقال محمد أطفيش في شرح النيل : والغرر قيل كالربا في عدم صحة المحاللة والإبراء والتقاضي وقيل([9]) بتقاض في الغرر، وقال ابن رشد : التراضي بما فيه غرر أو خطر أو قمار لا يحل ولا  يجوز([10]) ، كما أن الدخول على عقد مع العلم بالغرر فيه يفسده ، فلا يجوز الدخول فيه([11]).


 

المسلك الثاني : أن نضع ضابطاً للغرر الكثير وحده ، ونقول : إنه هو الغرر المؤثر ، وكل ما عداه فلا تأثير له ، وخير ضابط هو ما قاله الباجي : الغرر الكثير هو ما غلب على العقد حتى أصبح العقد يوصف به ، ومزية هذا الضابط أنه يقلل إلى حد كبير من الاختلاف في الغرر المؤثر ، مع الاحتفاظ بمزية المرونة ، فإن وصف العقد بإنه عقد غرر يتأثر حتماً باختلاف البيئات والعصور ، فالمجتمع هو الذي يخلع على العقد هذه الصفة ، وقد عرف المجتمع الجاهلي عقوداً بهذه الصفة ، كبيع الحصاة ، وبيع الملامسة ، والمنابذة ، ولذا جاء الحديث ينهي عن هذه البيوع بصفة خاصة وعن ” بيع الغرر ” بصفة عامة ، والتعبير بـ ” بيع الغرر ” يشعر بأن البيع المنهي عنه هو ما تمكن فيه الغرر حتى أصبح يوصف به، ولعل هذا التعبير هو الذي أوحى للباجي بتفسيره للغرر الكثير المؤثر في العقد. ونستطيع أن نجد تطبيقاً لهذا الضابط في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك في بيع الثمر قبل بدو صلاحه، فإن الناس كانوا يبيعون الثمر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستمروا على ذلك إلى أن كثرت خصوماتهم بسبب هذا البيع ؛ لكثرة ما يصيب الثمر من العاهة ، وتبين أن هذا بيع غرر فنهاهم صلي الله عليه وسلم عنه.

رأينا في هذا المسلك :

            هذا المسلك الذي ارتضاه فضيلة الشيخ هو اتجاه إلى تحديد ضابط للغرر الكثير والقليل ، لأن محل النظر هو الغرر الكثير ، وأما ما عداه فيلس محل نظر لأنه لا تأثير له ، وقد ذكر فضيلة الشيخ ضابط الباجي في الغرر الكثير وهو ” ما غلب على العقد حتى أصبح العقد يوصف به ” وعبارة الباجي بتمامها قال : ” بيع الغرر ما كثر فيه الغرر ، وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر، فهذا لا خلاف في المنع منه ” ونحن مع الشيخين في أن الغرر الكثير إذا غلب على العقد حتى صار البيع يوصف به ، فهو غرر كثير مؤثر ، وهذا محل اتفاق ، لكنه لا يشفي الغليل في وضع حد واضح يمكن تطبيقه وقياسه في التعامل لدى المؤسسات المالية.

            ويمكن أن نذكر هنا ملحظين :

            الأول : أن اشتراط الغلبة في الكثرة حتى نصل لدرجة يوصف العقد معها بأنه عقد غرر ، كما قال الباجي ، غير مسلم ، فقد يشوب العقد غرر كثير لا يغلب عليه تلك الغلبة ومع ذلك يفسده.

            وقد ذكر الشيخ الصديق الضرير حفظه الله ملحظاً دقيقاً في لفظ الحديث وأنه هو الذي حمل الباجي على ذكر هذا الشرط أو هذا القيد وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بعض البيوع كبيع الحصاة ، وبيع الملامسة ، والمنابذة بصفة خاصة ، ونهى عن ” بيع الغرر ” بصفة عامة ، وأن التعبير بـ ” بيع الغرر ” يشعر بأن البيع المنهي عنه هو ما تمكن فيه الغرر حتى أصبح يوصف به ، ثم قال الشيخ حفظه الله : ” ولعل هذا التعبير هو الذي أوحى للباجي بتفسيره للغرر الكثير المؤثر في العقد ” .  ولا شك أن هذا الملحظ يحتمله لفظ الحديث لكنه لا يلزم منه هذا المعنى وحده ، وإنما يحتمله فحسب لأن النهي الذي ذكره روات الحديث من الصحابة يحتمل العموم ويحتمل التخصيص ، قال الإمام الغزالي : ” قول الصحابي  ” نهي النبي عليه السلام عن كذا ” كبيع الغرر ، وغيره لا عموم له لأن الحجة في المحكي لا في قول الحاكي ، ولفظه ، وما رواه الصحابي من حكي النهي يحتمل أن يكون فعلاً لا عموم له نهى عنه النبي عليه السلام ، ويحتمل أن يكون لفظاً خاصاً ، يحتمل أن يكون لفظاً عاماً ([12])، ولفظ الحديث فيه أيضاً إيماء أو شبه بالمحرم لذاته والمحرم لغيره ، فما ذكر في الحديث من تخصيص بيع الحصاة ، والملامسة والمنابذة يشعر بأنها بيوع أو عقود غرر بذاتها أي بنفس العقد لا تحتمل التصحيح ، فهي كالمحرم لذاته مثل الخمر ، وأما النهي عن ” بيع الغرر ” بعد التخصيص يشعر بان الغرر قد طرأ أو دخل البيع السليم لكنه أفسده لكثرته ، فهو كالعارض له ، أو كالمحرم لغيره مثل البيع وقت النداء لصلاة الجمعة.

            الثاني : في تحديد من الذي يقرر اعتبار أن هذا الغرر كثير غالب حتى صار العقد يوصف به.  يقول فضيلة الشيخ الصديق الضرير حفظه الله : ” المجتمع هو الذي يخلع على العقد هذه الصفة”  ، ولا خلاف في هذا وهو مسلم من حيث الوصف ، فيمكن أن يتقرر وصف الغرر الغالب من المجتمع تبعاً للظرف أو المكان أو الزمان، وإذا كان هذا مسلماً من حيث الوصف فإنه غير كاف ولا مسلم من حيث الحكم وهو المراد ، إذ مقصودنا في مقدار الغرر الكثير الذي يفسد العقد ، وهذا شأن الشارع ، فلابد من اعتبار الشارع له حتى أثره ، وإلا فإن المجتمع بأعرافه وظروفه ونظمه قد يعتبر الغرر غالباً ولا يفسد معه العقد، بل يتعاطاه ويتعامل به ، في حين أن قواعد الشرع تأباه ، والعبرة بحكم الشرع ، ولا اعتبار بتراض الناس واتفاقهم على قبول الغرر الكثير المؤثر في صحة العقد  – وقد سبق التنويه لذلك -.

      ثم إن اعتبار الشارع – إلى جانب كون الغرر كثيراً باعتبار العرف – يقلل كثيراً من احتمال الخلاف في تحديد مقدار الغرر المؤثر في العقد ، ذلك أن لدى الشرع أدوات يقرر الفقيه على ضوئها الحكم ، فينظر في محل الغرر ، فقد يكون الغرر في الصيغة أو في الأجل أو في العوض ، وقد لخص الشيخ الصديق الضرير كلام الفقهاء وحصر مكان الغرر حصراً دقيقاً حين تكلم عن جهات تعلق الغرر في البيوع فجمعها في محلين وتحت كل منهما فروع فقال حفظه الله :

 

 

أولاً : الغرر في صيغة العقد ويشمل :

1-  بيعتين في بيعة وصفقتين في صفة.

2-  بيع العربان.

3-  بيع الحصاة.

4-  بيع المنابذة.

5-  بيع الملامسة.

6-  العقد المعلق والعقد المضاف.

ثانياً : الغرر في محل العقد ، ويتفرع هذا القسم إلى الفروع الآتية:

1-  الجهل بذات المحل.

2-  الجهل بجنس المحل.

3-  الجهل بنوع المحل.

4-  الجهل بصفة المحل.

5-  الجهل بمقدار المحل.

6-  الجهل بأجل المحل.

7-  عدم القدرة على تسليم المحل.

8-  التعاقد على المعدوم.

9-  عدم رؤية المحل([13]).

فإذا اجتمع لدى الفقيه عقد فيه غرر يقرر العرف كثرته ويعتبره الشارع غرراً مؤثراً في أحد هذه المحال تيسر عند الفقيه الحكم بأن هذا الغرر مؤثر في العقد.


 

رابعاً : شرط الحاجة المعتبرة أن تكون متعينة :

      قال الشيخ حفظه الله : ” الحاجة المعتبرة هي الحاجة المتعينة “، ثم شرح ذلك بقوله: يشترط في الحاجة التي تجعل الغرر غير مؤثر أن تكون متعينة، ومعنى تعينها أن تنسد جميع الطرق المشروعة للوصول إلى الغرض ، سوي ذلك العقد الذي فيه الغرر ؛ لأنه لو أمكن الوصول إلى الغرض عن طريق عقد آخر لا غرر فيه ، فإن الحاجة للعقد الذي فيه غرر لا تكون موجودة في الواقع ؛ ولهذا لم تجز إجارة الغنم لشرب لبنها ، كما لم يجز بيع لبنها في ضرعها ؛ لأن الحاجة غير متعينة ، إذ في الإمكان شراء اللبن بعد أن يحلب، بينما جازت إجارة الظئر باتفاق الفقهاء ؛ لأن الإرضاع لا يكون إلا عن هذا الطريق ، فالحاجة إلى هذا العقد متعينة.

      وأرى – حسب فهمي لهذا الشرط – أن تقييد اعتبار الحاجة النافية للغرر بأن تكون متعينة فيه تضييق في باب المعاملات لا مبرر له ، مادمنا اعتبرنا الحاجة كما عرفها السيوطي : ” هي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة ولكنه لا يهلك ” فهذا قدر كاف ومادام الشرع قد اغتفر الغرر في عقد ما ، وربما صلح هذا القيد لو كنا أمام ارتكاب عقد غرر ضرورة لا مجرد حاجة .

وقد يلزم من هذا الشرط إجازة عقود غرر تعينت فيها الحاجة ، كعقد التأمين التجاري – قبل وجود التأمين التعاوني الإسلامي – لأن الحاجة هنا متعينة والنظر للحاجة المتعينة ولا ينظر إلى الغرر الكثير ، لأن الشيخ حفظه الله اشترط الحاجة لعدم تأثر الغرر ولو كان كثيراً فقد سبق القول :   ” أن كانت هناك حاجة – أي وكانت متعينة – إلى ذلك العقد لم يؤثر الغرر فيه ، مهما كانت صفة الغرر ، وصفة العقد ” ثم إن هذا الشرط لم يذكره الفقهاء أو يفردوه بالذكر أويأكدوا عليه كما فعلوا في شروط الغرر وضوابطه وأقسامه ، والشيخ حفظه الله استنبطه من الأمثلة التي ذكرها الفقهاء ، وقد ذكر بعضهم إبان ذكر الأمثلة التعليل بالحاجة المتعينة([14]). وأيضاً فإن ما كان في حيز العرف والاستحسان لا تحتاج الحاجة فيه إلى التعين حتى يغتفر الغرر وإلا لدخل على الناس الحرج من باب واسع ، فإن كثيراً من المعاملات ما جازت إلا لتعامل الناس. أو أنها استحسان للحاجة أو الضرورة ولا ريب أن نصوص الشرع وقواعده تأبى الحرج والضيق ، وترنو إلى السعة واليسر خاصة في باب المعاملات ؛ إذ الأصل في البيوع الإباحة حتى تقرر قاعدة ثابتة نص عليها الإمام الشافعي وابن تيمية وابن رشد وابن العربي وابن عبدالبر وغيرهم([15]).


 

خامساً:  في اقتراح ضوابط الغرر المانع من صحة المعاملة ومقداره :

      الذي نخلص به مما سبق : هو أن ما جعل أمر وضع معيار صعباً هو محاولة وضع معيار ضابط لحد الكثرة المؤثرة في العقد ، والكثرة وصف غير منضبط فهي تختلف من نظر إلى آخر ، ومن مجتمع إلى آخر ، ومن عرف إلى عرف آخر ، ولذلك قال الشيخ حفظه الله ، قبل أن يذكر المسلكين : ” أن وضع ضابط محدد للغرر الكثير والغرر اليسير في وقت واحد غير ميسور”.

      وأري أننا لو وضعنا المعيار الضابط للغرر المؤثر ذاته ، فنضع له القيود والشروط لكان أيسر وأجدى ، وهذا ما يومئ إليه كلام ابن رشد حين تكلم عن البيع الذي يثمر بطوناً مختلفة فقال : ” والسبب في اختلافهم هل هو من الغرر المؤثر في البيوع أم ليس من المؤثر ؟ وذلك أنهم اتفقوا أن الغرر ينقسم بهذين القسمين ، وأن غير المؤثر هو اليسير أو الذي تدعو إليه الضرورة أو ما جمع الأمرين”([16]) ، ولذلك نطرح جواباً لتحديد موضوع : ” الغرر المانع من صحة المعاملة ومقداره ” وهو عنوان البحث في الآتي :

      يشترط في الغرر المانع من صحة المعاملة شروط :

      الأول : أن يكون الغرر كثيراً بحكم العرف أو الشرع.

الثاني : أن يعتبر الشارع تأثير الكثرة في إفساد العقد.

الثالث : أن يكون في المعقود عليه أصالة.

الرابع : ألا تدعو إليه الحاجة الشديدة التي تنزل منزلة الضرورة.

الخامس : أن يكون محل الغرر المؤثر في الجهل في ذات المحل أو جنسه أو صفته أو مقداره أو أجله أو في عدم القدرة على تسليمه ، أو عدم رؤيته، أو كان المحل معدوماً.

ونظن أن وضع هذه  القيود والشروط أمام هيئة الفتوى في المؤسسات المالية الإسلامية ييسر عليها الحكم لتقرير مدى الغرر وتأثيره في المعاملة بعد أن تجتهد الهيئة في تحقيق مناط الحكم في كل معاملة على حدة.

واختم مقالتي هذه بتكرار الثناء على البحث القيم المتميز لمولانا الشيخ البروفسور الصديق محمد الأمين الضرير ، فجزاه الله خيراً على ما أثرى به الأمة من نتاج نظرية متكاملة في ” الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي ” وجعل ذلك في ميزانه.

والله أعلم

 

 



([1])  انظر في علة تحريم الغرر ، الفتاوي الكبري (4/16) ، والبحر الرائق (6/80) ، وأعلام الموقعين 1/7.

([2] )  مختار الصحاح ولسان العرب.

([3] )  الفورق للقرافي : الفرق بين قاعدة المجهول وقاعدة الغرر ج (3) – الفرق الثالث والتسعون والمائة وحدود ابن عرفه – باب في الغرر وكتاب الغرر وأثره في العقود للشيخ الصديق محمد الأمين الضرير (53) ، وانظر التعريف في البحر الزخار (4/62) ، والتلخيص الحبير ج (3) فقرة (1130) وشرح البهجة (3/402) ، والمجموع شرح المهذب   (9/310) والتاج والإكليل لمختصر خليل (6/224) وأعلام الموقعين           (1/358).

([4] )  شرح مختصر خليل للخرشي (5/69).

([5] )  الفتاوى الكبري (4/18).

([6] )  قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/11).

([7] )  حاشية الدسوقي (3/115).

([8] )  الأم (2/306).

([9] )  شرح النيل وشفاء العليل (8/645).

([10] )  مقدمات ابن رشد (2/72).

([11] )  شرح حدود ابن عرفة (254) والمنتقى شرح الموطأه (1741).

([12] )  المستصفي (2/238).

([13] )  الغرر (97).

([14] )  وقد اشترط المالكية في ضوابط الغرر المؤثر ألا يقصد الغرر فإذا قصد الغرر اليسير أثر في العقد بالفساد ، قال خليل : واغتفرغرر يسير للحاجة لم يقصد قال الشارح قيد خليل الغرر اليسير بعدم قصده للاحتراز عن اليسير الذي يقصد كشراء حيوان بشرط الحمل حيث كان حمله يزيد في ثمنه فإنه يفسخ ، انظر شرح مختصر خليل للخرشي وحاشية العدوي والفواكه الدواني.

([15] ) انظر جمهرة القواعد الفقهية في المعاملات المالية للدكتورعلى الندوي (1/293) قاعدة : الأصل في البيوع الإباحة”

([16] )  بداية المجتهد ( 2/157) والمقدمات (2/305) عن بحث الشيخ الصديق الضرير (11)

شاهد أيضاً

الوطن والمواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية

الوطن والمواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية

التحوط في المعاملات المالية

بحث التحوط في المعاملات المالية

تحويل البنوك التقليدية لبنوك اسلامية ( المبادئ والضوابط والإجراءات )

تحويل البنوك التقليدية إلى بنوك اسلامية