الرئيسية / قضايا الساعة / الرد على الفتوى المنسوبة لمجمع البحوث الإسلامية برئاسة شيخ الأزهر فضيلة الشيخ/ محمد سيد طنطاوي في إباحة الفوائد البنكية

الرد على الفتوى المنسوبة لمجمع البحوث الإسلامية برئاسة شيخ الأزهر فضيلة الشيخ/ محمد سيد طنطاوي في إباحة الفوائد البنكية

الرد على الفتوى المنسوبة لمجمع البحوث الإسلامية برئاسة شيخ الأزهر فضيلة الشيخ/ محمد سيد طنطاوي في إباحة الفوائد البنكية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

تأتي هذه الفتوى في الوقت الذي بدأ فيه منهج الاقتصاد الإسلامي المبني على المشاركة بشق طريقه العملي في أرجاء البلاد الإسلامية ، ويثبت نجاحه بتكوين قاعدة ضخمة من المتعاملين شعوبا وحكومات ومؤسسات مالية ، ويدخل السوق العالمية باعتباره نظاما بديلا عن الربا ، ويقدم أدوات مالية استثمارية لفتت انتباه المؤسسات المالية الغربية حتى وجدت أن من مصلحتها التعامل مع هذه الأدوات المالية التي تحقق الربح المناسب مع درجة كبيرة من الأمان ، بعيدا عن المخاطر الفادحة التي يعاني منها الاقتصاد الربوي ، وهذا ما دعى هذه البنوك العريقة أن تفتح لها نوافذ تختص بتقديم الاقتصاد الإسلامي ، بل أنشأت بعضها بنوكا مستقلة في ذمتها المالية تتعامل وفق أحكام الشريعة الإسلامية ، وهذه شهادة لا تقبل الشك في صلاحية منهج المال الإسلامي في ريادة الأسواق المالية بأسلوب المشاركات التنموية الحقيقية ، بعيدا عن الأسلوب الربوي في مضاربة النقد بالنقد لتوليد الفوائد الربوية .

وتأتي هذه الفتوى في الوقت الذي تواترت الأبحاث العلمية المعمقة في البلاد الأجنبية في مراكز بحثها ، وفي جامعاتها ، التي أكدت كلها علمية ودقة المنهج الاقتصادي الإسلامي ، وقدراته على الريادة والاستمرار ، بل نادى البعض منهم باعتباره المخلص الفعلي لمشاكل السوق العالمية التي مافتأت تتوالى عليها الأزمات المالية والهزات الاقتصادية المدمرة بسبب المضاربات الربوية العالمية التي كبلت الدول الفقيرة بالديون ، وأوقفت عجلة التنمية فيها ، فزادت من غنى الغني ومن فقر الفقير .

تأتي هذه الفتوى طعنة من أهل الإسلام وجلدته في وقت انتصار غير المسلمين لمنهج الإسلام الاقتصادي في محاربته للربا وشبهاته ، وما زاد من الألم وعمق الأسى أن تصدر هذه الفتوى أو بمعنى أدق أن تنسب هذه الفتوى إلى مجمع البحوث الإسلامية وهو من أقدم المؤسسات البحثية العلمية المعاصرة في عالمنا الإسلامي ، ويشرف عليه الأزهر الشريف الذي يتحمل عبر تاريخنا مشعل علوم الشريعة المعمقة فقها وأصولا وحديثا وتفسيرا وعقيدة ودعوة ، وهو الذي يمثل أكبر جامعة إسلامية .

ولو أن الفتوى نسبت إلى فضيلة شيخ الأزهر لهان الخطب ولا يهون فهذا رأي فضيلته من قبل بلفظ أدلة الفتوى وروحها ، ولكن أن يحمل عبء هذه الفتوى مجمع البحوث الإسلامية فهذا من كبائر وعظائم الأمور التي نخشى أن تشوه صورة الأزهر الرائد المنافح عن الشريعة وأحكامها وأن تهتز صورته في أذهان العامة ، أما الخاصة من الفقهاء أهل العلم من علماء الأزهر وعلماء الأمة الإسلامية فيعلمون أن مجمع البحوث الإسلامية أكبر من أن تصدر عنه هذه الفتوى حقيقة ، ويعلمون خبايا الزوايا التي صدرت من خلالها هذه الفتوى  ويعلمون أن من حضر الجلسة لا يمثلون المجمع كله وما من مجمع يكتفي بعدد أربعة عشر عضوا أو يزيد قليلا ، والفقهاء المختصون منهم ثلاثة فقط مع احترامنا البالغ لبقية العلماء ممن نعتز بعلمهم ومكانتهم ، وبأيدي الفقهاء قرار مجمع البحوث الإسلامية في الموضوع ذاته وتحريمه الصورة الربوية ذاتها ، وقد سبق في ذلك المجامع الفقهية في العالم الإسلامي كلها ، فقد أصدر قراره في مؤتمره الثاني المنعقد في شهر المحرم 1385 هـ الذي يوافقه مايو 1965 م وبحضور زهاء مائة وخمسين فقيها يمثلون خمسا وثلاثين دولة إسلامية ، وصدر قرارهم التالي بالإجماع برئاسة الشيخ / حسن مأمون شيخ الأزهر وعضوية كبار الفقهاء أمثال الشـيخ/ محمد أبي زهرة وعلي الخفيف وفرج السنهوري وعبد الله المشد ومحمد علي السايس ، وهذا نص قراره :

        ” الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم ، لا فرق بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي ، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام والإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة والاقتراض بالربا محرم كذلك ، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه ضرورة ، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير الضرورة ” ، لقد حسمت هذه الفتوى الموضوع بالإجماع وبحضور هذا العدد الوفير من أهل الفقه والاختصاص ، وبأسلوب صياغة فقهية محكمة جامعة مانعة ، خالية من الحشو والعامية أو ركاكة التراكيب اللفظية ، وهي الصياغات المعهودة في الفتوى التي يترتب عليها عمل ، فأنى هذه الفتوى من تلك بحضور خمسة وعشرين ، وبالأغلبية ، فلا شك أن هذا القرار لا يصلح البتة ولا يقوى على نقض الفتوى الأصلية ، وإذا كان فقهاؤنا قد قرروا أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، هذا إذا سـلم الاجتهاد من القوادح والاعتراضات ، وانبنى على أدلة وأساليب وطرائق الاجتهاد المعروفة عند أهل الاختصاص .

وقبل الدخول في مناقشة مضامين الفتوى يجب أن نحدد محل النزاع والخلاف أو مناط الحكم في الفتوى ، فإن الفتوى قد خلطت بين محل الوفاق والخلاف ولم تحرر مناط الحكم ، فليس الخلاف في تحديد الربح مقدما منفصلا عن غيره ، بل الخلاف في ضمان واشتراط الربح ، وفي ضمان رأس المال ، وفي صفة يد البنك على المال هل هي صفة أمان أو ضمان ، وإذا قيل بأن البنك وكيل ما هي الآثار المبنية على هذه العلاقة ، هذا ما كان الواجب جعله محور وأساس الفتوى لتكون الفتوى سليمة من الناحية المنهجية العلمية الفقهية . بعد هذا نبدأ بمناقشة هادئة علمية فقهية للفتوى .

أولا : عنوان الفتوى ” استثمار الأموال في البنوك التي تحدد الربح مقدما ” :

العنوان يوحي بأن محل الخلاف في تحديد الربح مقدما وكأن الاستثمار ذاته حلال مفروغ منه ، وعناصر السؤال المتعددة أغفلها العنوان ، وصحة العنوان أن يكون ” حكم استثمار الأموال في البنوك التقليدية ” ليشمل عناصر السؤال ، وما إذا كان الربح محددا مقدما أو غير محدد . ويشمل البنك الذي يحدد الربح مقدما والذي لا يحدد لئلا يكون للعنوان مفهوم مخالف .

ثانيا : السؤال :

” إن عملاء بنك الشركة المصرفية العربية الدولية يقدمون أموالهم ومدخراتهم للبنك الذي يستخدمها ويستثمرها في معاملاته المشروعة مقابل ربح يصرف لهم ويحدد مقدما في مدد يتفق مع العميل عليها ، نرجو الإفادة عن الحكم الشرعي لهذه المعاملة ” . رئيس مجلس الإدارة توقيع الدكتور/ حسن عباس زكي وقد أرفق سيادته مع الخطاب نموذجا لمستند التعامل الذي يتم بين المستثمر والبنك ، ونص هذا النموذج كالآتي :


 

 

– – – – – – – – – – – – – – – –

البنك

الشركة المصرفية العربية الدولية

التاريخ :     /      / 2000م

السيد /                                          حساب رقم :                       

تحية طيبة وبعد :

      نحيط سيادتكم علما بأنه قد تم تجديد رصيدكم طرفنا وقدره 100000جم ( فقط مائة ألف جنيه مصري لا غير ) عن الفترة من 1 / 1 / 2002 حتى 31 / 12 / 2002م

بعائد 10% سنويا والعائد قدر                                    10000   جنيها مصريا

إجمالي المبلغ + العائد في تاريخ الاستحقاق                     110000 جنيها مصريا

المبلغ الجديد مضافا إليه العائد حتى 31 / 12 / 2002         110000 جنيها مصريا

 

– – – – – – – – – – – – – – – –

 

المناقشة : وتتناول السؤال ذاته والجدول المرفق مع السؤال :

أ – كان من الواجب أن يحرر المجمع محل السؤال ، ولا يمكن إصدار حكم مع هذا الإجمال ، فينبغي أن يستفصل ويستفسر المجمع عن بعض الأمور التي لا يكتمل الجواب والفتوى إلا بها وهي :

ما هي صفة البنك القانونية حين يستلم أموال العملاء ، هل هو مقترض أو مضارب أو وكيل . ومحل هذا السؤال ودواعيه أن معرفته هي مناط الحكم ومبناه ، إذ من المعلوم أن تسلم البنك الأموال إنما هو على صفة الاقتراض .

الاستفسار عن المقصود بعبارة الاستخدام والاستثمار وفي معاملاته المشروعة . ما هي هذه الاستثمارات التي وصفها البنك بأنها مشروعة ، ولفظ مشروعة هذا حكم شرعي يصدره السائل ، وهو مصادرة على الحكم والفتوى ، فالبنك لا يملك وصف أفعاله من الناحية الشرعية ، وإلا فلا محل للسؤال ابتداء .

وما الفرق بين الاستخدام والاستثمار ، هل المراد أن البنك يستخدم هذه الأموال في شؤونه الإدارية ، ومقار عمله ، والاستثمار شئ آخر .

 

ب – الجدول المرافق للسؤال لا يطابق السؤال ، ولا يكشف عن مضمونه فمضمون السؤال : استثمار الأموال أي أن هناك مجالات استثمار محددة ، ومعاملات وصفها بالمشروعية ، والجدول يتضمن شيئاً آخر . وكان من المفروض أن يثير تساؤلات بديهية فإن الجدول صيغة بنكية ربوية صريحة ، تحمل الجواب على أن البنك لا صلة له بالاستثمار ، إلا الاستثمار النقدي الربوي حيث يلد النقد النقد ، وهذه واضحة في الجدول لا تحتاج إلى عميق نظر . فالعميل أودع مبلغ 100000 مائـة ألف جنيها مصريا لفترة من 1 / 1 / 2002 حتى أصبح في 31 / 12 / 2002 أي بعائد 10% سنويا . وتم حسابه بإجمالي المبلغ + العائد في نهاية السنة ليصبح 110000 جنيها مصريا . فالجدول ربوي صرف غاية ما فيه تسمية الفوائد بالعوائد ، والعبرة للمعاني لا للألفاظ كما هو متفق عليه عند أهل العلم .

ثالثا : الفتوى ومناقشتها فقرة فقرة :

أ – الفقرة الأولى :

” الذين يتعاملون مع بنك الشركة المصرفية العربية الدولية – أو مع غيره من البنوك – ويقومون بتقديم أموالهم ومدخراتهم إلى البنك ليكون وكيلا عنهم في استثمارها في معاملاته المشروعة ، مقابل ربح يصرف لهم ، ويحدد مقدما في مدد يتفق مع المتعاملين عليها ” .

لقد تضمنت هذه الفقرة ثلاثة أمور :

أولها : أنها ضمت للجـواب بالإضافة إلى البنك السـائل ، بقية البنوك ، وثانيها : وصف البنك بأنه وكيل عن عملائه ، وثالثها : وصف استثماراتها أنها في معاملات مشروعة .

ونتناول هذه الثلاثة وخاصة الثاني والثالث منها محل الإشكال ومحزه :

أما الأمر الأول : وهو تعميم الحكم ليشمل مع البنك السائل غيره من البنوك الربوية . وهذا يفيد أنه لا خصوصية للبنك السائل وإن كان مسماه قد يوحي باختلافه عن البنوك وأنه قد يستثمر في غير المعهود في استثمارات البنوك . فالتعميم قطع بأنه بنك مثل غيره من البنوك لذا كان الحكم واحداً .

أما الأمر الثاني : إضفاء صفة الوكيل على البنك وهذا هو مناط الفتوى فإذا استقام استقامت الفتوى في هذه الجزئية وهي أساسية جدا ، وهي التي تكشف عن التكييف الشرعي لصفة البنك .

صفة الوكالة هذه لا تصح البتة ؛ لأن الفقهاء مجمعون على أن الوكيل يعمل لمصلحة وبتوجيه الموكل ، وللموكل أن يعفيه ويقيله من الوكالة ، لأن الوكالة عقد جائز غير لازم ، ويد الوكيل على المال يد أمانة لا يضمن الخسارة وتلف المال إلا إذا ثبت تعديه أو إهماله وتقصيره تقصيرا لا يحدث من أمثاله .

ثم إن الوكيل إما أن يعمل في مال موكله متبرعا أو بأجر ، وإن كان بأجر فيلزم تحديد أجرته مبلغا مقطوعا ، ويجيـز بعض الفقهاء أن تكون أجرته نسبة من رأس المال ، كما أجمعوا على أن ربح المال في يد الوكيل كله للموكل ، وخسارته التي لا يد للوكيل فيها على الموكل .

وليس شئ من ذلك يصح في هذا العقد ، فإن البنك يستثمر أموال العملاء بطريقته ، ثم يعطيهم ربحا – حسب عبارة الفتوى – وهذا يعني أن ما زاد عن الربح المحدد كله للبنك – كما صرحت الفتوى في فقرة لاحقة – وهذا المقدار من الربح غير محدد ، ولا يطلع عليه العملاء أرباب المال الموكلون . ثم إن البنك وهو الوكيل ضامن للخسارة بل ضامن صراحة لرأس مال الموكل وربحه المحدد مقدما . وهذا كله قلب لمفهـوم عقد الوكالة رأسا على عقب ، فلا يمكن البتة أن يكون هذا عقد وكالة ، ولم يقل ، ولا يقول أحد عنده مسحة من فقه أن هذا عقد وكالة .

كما لا يصح أن يكون العقد عقد مضاربة ، بحيث يكون البنك مضاربا بأموال العملاء ، وهم أرباب المال ؛ لأن شرط المضاربة المتفق عليه عند جميع الفقهاء : أن يكون الربح معلوم القدر ، فيحدد نصيب المضارب من الربح ، والباقي من الربح لرب المال . وأن يكون الربح نسبة شائعة كالنصف والثلث والربع ، فإذا شرط مبلغ معين مقطوع من الربح أو نسبة محددة من رأس المال بطلت المضاربة لأنها تؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح ؛ لاحتمال أن لا يربح المضارب غير المبلغ الذي تم تحديده في عقد المضاربة . ثم إن هذا كله إذا وجد ربح من عمل المضارب ، فإن لم يحصل الربح ، فيضيع على المضارب جهده ، ويضيع على رب المال الربح ، وإذا خسر رأس المال فخسارته على رب المال ، ولا يتحمل المضارب منه شيئا .

وهذا كله غير متحقق في العلاقة محل النظر ؛ فإن البنك هنا يضمن رأس المال كما يضمن الربح ، ويتحمل المخاطر والخسارة . فتكييف العلاقة على أنها مضاربة بعيد كل البعد .

وإذا بطلت المضاربة يبطل تكييف العلاقة بالشركة ، إذ لا يصح أن يكون البنك شريكا مع العملاء ، فإن الشركة تبطل بإجماع الفقهاء متى ضمن أحد الشركاء لغيره من الشركاء الربح لما يؤدي إليه من قطع الشركة في الربح – كما سبق – .

فلم يبق إلا أن العلاقة بين البنك وعملائه أرباب المال إلا علاقة إقراض واقتراض فالبنك مقترض أموالهم وهم مقرضون والمسمى ربحا أو عائدا هو نصيب أرباب المال ، وهو الفائدة الربوية المضمونة والمنسوبة لرأس المال والمدة ، وهذا عين الربا ، ربا الجاهلية الذي يربط فيه المقرض الفائدة برأس المال والمدة فكلما زاد رأس المال أو المدة زادت الفائدة .

وإذا كنا نتلمس سـندا أو دليلا لتكييف العلاقة بالوكالة أو المضاربة أو المشاركة ، فإنا لا نحتاج إلى دليل على كونها علاقة قرض واقتراض ، فهذا ظاهر من السؤال ومن الجدول المرافق له فكان من الواجب أن يقول المجمع : ” إن هذه المعاملة محرمة لأنها تضمنت الربا الصريح بديل الجدول المرافق للسؤال ” .

أما الأمر الثالث : وصف استثمارات البنك بأنها في معاملاته المشروعة .

إن الفتوى لا تستقيم فقها حتى تبين ما هي هذه الاستثمارات البنكية المشروعة ، وقد أصدر البنك هذا الحكم الشرعي ، فوصف عمله بذاته بأنه مشروع ، والفتوى قبلت هذا الوصف وأقرته ، ومن واجب المفتي أن يسأل عن طبيعة هذه الاستثمارات حتى ولو ظن أنها فعلا مشروعة ، فهي مشروعة في نظر المستفتي ، فلا بد من الاستفصال عن طبيعتها ونوعها ليكون الحكم الشرعي على وفقها . فهي من مناطات الحكم التي لا تصح الفتوى دون تحريره . ولا يعقل أن أحدا من العلماء الأفاضل ، ومن بينهم ثلاثة من الفقهاء المتخصصين في الفقه والأصول لم يسأل عن طبيعة هذا الاستثمار . ولعلها لم تبين لأنه لا يمكن إلا أن تكون استثمارات غير مشروعة ، وهي التي لا يملك البنك غيرها بنصوص القوانين ، سواء القانون المصري أو بقية قوانين البلاد العربية وغيرها التي تقر أعمال البنوك الربوية . وكلها تعتبر أموال العملاء قرضا على البنك ويجب أن يعطي عليه فائدة وهاك بعض نصوص القانون المصري فالمادة 726 من القانون المدني تنص على الآتي : ” إذا كانت الوديعـة مبلغا من النقود ، أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال ، وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله ، اعتبر العقد قرضا ” . وتنص المادة 301 من القانون رقم 17 لسنة 1999م على أن وديعة النقود عقد يخول البنك ملكية النقود المودعة ، والتصرف فيها بمـا يتفق ونشاطه مع التزامه برد مثلها للمودع طبقا لشروط العقد ” . وتحظر المادة 39 على ” البنك التجاري التعامل في المنقول والعقار بالشراء والبيع أو المقايضة ” . كما تنص المادة 45 على أنه : ” يحظر على البنوك العقارية والبنوك الصناعية والبنوك الاستثمارية الأعمال المحظورة على البنوك التجارية ” .

وإزاء هذه النصوص الواضحة فإن مقولة أن البنك يستثمر أموال العملاء في استثمارات مشروعة غير صحيح ، ولو صح لم يسمح بها القانون ولمنع هذه المعاملة وأوقع العقوبة على البنك المخالف لاختصاصه المحدد ، وهو الإقراض والاقتراض فحسب .

ب – الفقرة الثانية :

” هذه المعاملة بتلك الصورة حلال ولا شبهة فيها ، لأنه لم يرد نص في كتاب الله أو السـنة النبوية يمنع هذه المعاملة التي يتم فيها تحديد الربح أو العائد مقدما ، ما دام الطرفان يرتضيان هذا النوع من المعاملة .

قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ” سورة النساء الآية 29 “ .

أي : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، لا يحل لكم ، ولا يليق بكم أن يأكل بعضكم مال غيره بالطرق الباطلة التي حرمها الله تعالى كالسرقة ، أو الغصب ، أو الربا ، أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى ، لكن يباح لكم أن تتبادلوا المنافع فيما بينكم عن طريق المعاملات المشروعة الناشئة عن التراضي الذي لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ، سواء أكان هذا التراضي فيما بينكم عن طريق التلفظ أم الكتابة أم الإشارة أم غير ذلك مما يدل على الموافقة والقبول بين الطرفين .

ومما لا شك فيه أن تراضي الطرفين على تحديد الربح مقدما من الأمور المقبولة شرعا وعقلا حتى يعرف كل طرف حقه .

هذه الفقرة تضمنت عدة أمور الأول : أن هذه المعاملة حلال لا شبهة فيها لأنه لم يرد نص في الكتاب أو السنة النبوية يمنع هـذه المعاملة . والثاني : أن رضى الطرفين يكفي في وصف هذه المعاملة بأنها حلال والاستشهاد على صحة ذلك بالآية الكريمة .

الأمر الأول : أن هذه المعاملة حلال لا شبهة فيها لأنه لم يرد نص من الكتاب أو السنة النبوية يمنع هذه المعاملة .

هذا مبني على صحة المعاملة ، وأن تكييفها وكالة صحيحة ، وأن الاستثمار قد تم في مجالات مشروعة ، وهذا كله لم يصح بالبيان السابق .

والقول الصحيح المدعوم بالأدلة السابقة يشير إلى أنها معاملة محرمة لا تختلف في شيء عن عمل البنوك الربوية في اعتبار المال قرضا وإعطاء الفائدة المضمونة عليه . ولا يخفى أن أشد آية نزلت في كتاب الله هي في حرمة الربا وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة على حرمة الربا وهو عينه الصورة المذكورة في السؤال والجدول المرافق له .

قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) ، ( البقرة : 278 – 279 ) . وقال تعالى : ( وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ، ( البقرة : 275 ) ، ومن السنة أحاديث كثيرة منها : ما رواه : جابر بن عبد الله الأنصاري قال : ” لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ” وقال : ” هم سواء ” ( مسلم 3/219 ) حديث رقم 1598 . والربا أعظم ذنباً من الزنى لقوله صلى الله عليه وسلم : ” درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية ” ( مشكاة المصابيح 2/90 ) ، حديث صحيح كما قال الشيخ ناصر الدين الألباني ) .

وأما الإجماع فقد قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيـادة على ذلك ربا ، وقال القرطبي : ” أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف – كما قال ابن مسعود – أو حبه واحدة ” تفسير القرطبي 3/241 ” وهذه المعاملة بذاتها شكلا وموضوعا ، وهو القرض الذي جر نفعا نظير الأجل هو ربا النسيئة المعروف في الجاهلية الذي نزلت الآيات بتحريمه . قال الإمام الرازي : ” ربا النسيئة هو الأمر الذي كان مشهورا متعارفا عليه في الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يدفعـون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ، ويكون رأس المال باقيا ، ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال ، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل ، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به ” تفسير الرازي 4/92 . وقال ابن قدامة : ” كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف ” .

الأمر الثاني : وهو أن تحديد الربح أو العائد مقدما حلال ما دام الطرفان يرتضيان هذا النوع من المعاملة .

فإن من المقطوع به فقها أن التراضي على المحرم لا يحل الحرام ، ولو كان هـذا القـول صحيحا لانخرمت الأحكام ، ولأصبح الزنا والفجور حلالا إذا تم بالتراضي .  وهل كان ربا الجاهلية إلا بالتراضي كما قال الإمام الجصاص : ” الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرضه على ما يتراضون به ” أحكام القرآن 1/465 . فتحديد الربح أو العائد – أي الفائدة – مقدما مع اشتراط ضمانها هو الربا المقطوع بحرمته ، فكيف يحله التراضي ، فالرضا محله العقود المباحة والجائزة الخالية من المحرمات .

وأما الاستشهاد بالآية على أن التراضي يحل المعاملة وهي قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أمـوالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ( النساء : 29 ) . هذه الآية التي يستدل بها على الجواز ، هي دليل منع إذ الآية هنا لها دلالة نص وظاهر ، فهي نص في حرمة أكل أموال المسلمين بينهم بالباطل ، وظاهر في حرمة الربا لأنه من أكل أموال الناس بالباطل قطعا ، بل هو من أظهر أنواع أكل أموال الناس بالباطل .

والتجارة هنا هي التجارة الصحيحة التي لا باطل ولا ظلم فيها ، ولا ريب أن التراضي على التجارة الحرام باطل ، ولا يحل التراضي ما حرمه الشرع ، ومعنى الآية : ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ” يعني : بالحرام الذي لا يحل في الشرع ، وقوله : ” إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ” هذا استثناء منقطع و ” إلا ” هنا بمعنى ” لكن ” والمعنى : لكن إن كانت تجارة أي أموال تجارة صادرة عن تراض منكم وطيب نفس فكلوها حلالا ، فأكل الأموال بالتجارة جائز بالإجماع ، ولأن التجارة ليست من جنس أكل المال بالباطل . فالتراضي ليس مطلقا كما أوردته الفتوى فنصت على : ” أن يباح لكم أن تتبادلوا المنافع فيما بينكم عن طريق المعاملات الناشئة عن التراض ” فالآية قاصرة هنا على التجارة التي فيها أكل الأموال لكن بالتراضي والربح الحلال ، وليس كل معاملة دخلها الرضى فهي حلال ، والتراضي في المعاملة محل الفتوى يحل حراما فهي خارجة عن موضوع الآية .

ج – الفقرة الثالثة :

” ومن المعروف أن البنوك عندما تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح أو العوائد مقدما ، إنما تحددها بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية والأوضاع الاقتصادية في المجتمع ، ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها .

ومن المعروف كذلك أن هذا التحديد قابل للزيادة والنقص ، بدليل أن شهادات الاستثمار بدأت بتحديد العائد 4% ثم ارتفع هذا العائد إلى أكثر من 15% ثم انخفض الآن إلى ما يقرب من 10% .

والذي يقوم بهذا التحديد القابل للزيادة أو النقصان ، هو المسئول عن هذا الشأن طبقا للتعليمات التي تصدرها الجهة المختصة في الدولة ” .

إن صدر هذه الفقرة يفيد أن البنك يضمن الربح لعملائه ، ولا يضيره أن يحدد لهم الربح المعين مقدما ، لأنه يأمن الخطأ في التحديد أن يكون سبباً لخسارة ما ، فإن البنك مطمئن إلى دراسته الدقيقة للأسواق المحلية والعالمية ، وأوضاع المجتمع الاقتصادية . ثم إن البنك لم يحدد ربحا معينا مضمونا إلا وهو ضامن ربحا أكبر ، فيأخذ أموال العملاء قرضا ، ثم يقرضها لبنـوك أخرى بنسـبة ربح أعلا مما ضمنه لعملائه وهذا شأن البنوك ، وهذا مفهوم الاستثمار فيها ، لا أنها تستثمره في العقار أو المنقول أو الأسهم أو غير ذلك فإنه محظور عليها قانونا كما سبق البيان ، بل عمل البنوك توليد النقود بالنقود ، وقد نبه فقهاؤنا على خطورة اتخاذ النقود سلعة تباع وتشترى ، فقال الشاطبي وغيره : النقود خلقت أثمانا وقيما للسلع ومتى استعملت سلعة دخل على الناس الفساد . والنابهون من الاقتصاديين اليوم يؤكدون هذا المعنى الاقتصادي الدقيق فالبنك إنما يتحصل على الفائدة لعملائه وله أيضا عن طريق بيع النقود والمضاربة الربوية فيها بالإقراض والاقتراض .

والقول بأن تحديد البنك قابل للزيادة والنقص ، هذه العبارة تشعر بمناقضة الفقرة السابقة التي يحدد فيها البنك الفوائد تحديدا دقيقا . وهي عبارة توهم بأن الربح متغير وهي سمة التجارة المشروعة ، وليس المراد ذلك قطعا فإن البنك يحدد لكل عملية ربحها المحدد المضمون الثابت الذي لا يزيد ولا ينقص ، ولكن المراد أن الزيادة والنقص في العقود المختلفة وفي أزمنة مختلفة فهي تزيد وتنقص تبعا للظروف والزمان والأحوال . والبنك المركزي هو الذي يتدخل ويفرض نسبة الفوائد التي قد تختلف من وقت لآخر وفق معطيات اقتصادية وسياسية مختلفة .

د – الفقرة الرابعة :

” ومن فوائد هذا التحديد – لا سيما في زماننا هذا الذي كثر فيها الانحراف عن الحق والصدق – أن في هذا التحديد منفعة لصاحب المال ، ومنفعة أيضا – للقائمين على إدارة هذه البنوك المستثمرة للأموال ” . فيه منفعة لصاحب المال ، لأنه يعرفه حقه معرفة خالية من الجهالة ، وبمقتضى هذه المعرفة ينظم حياته .

وفيه منفعة للقائمين على إدارة هذه البنوك ، لأن هذا التحديد يجعلهم يجتهدون في عملهم وفي نشاطهم حتى يحققوا ما يزيد على الربح الذي حددوه لصاحب المال ، وحتى يكون الفائض بعد صرفهم لأصحاب الأموال حقوقهم ، حقا خالصا لهم في مقابل جدهم ونشاطهم .

هذه الفقرة تركن إلى الدليل الأضعف وهو بناء الحل على المنافع والمصالح ، والمقرر عند علماء الأصول أن شرط الأخذ بالمصلحة وبناء الحكم عليها إذا لم تصادم نصا ، وقد أجمع الفقهاء والأصوليون على أن المصلحة لا تقدم على النص عند التعارض – ومن قال بخلافه وهو الطوفي فقول شاذ لا يخرق الإجماع – ، ولذا كانت المصالح المصادمة للنصوص غير معتبرة ، وما بنى عليها باطل ، وكانت الفائدة الربوية وإن كان فيها مصلحة للمرابين إلا أنها مال خبيث لا يحل ، ولا يعتبر طريقا من طرق الملكية ولذا لم تجب الزكاة في الفائدة الربوية لخبثها ، ومن قال إن الربا فيه مصالح حقيقية ، بل الصحيح أن مصالحه موهومة بل هي مفاسد حقيقية . ولذا سماه الله ظلما فقال تعالى : ” وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ” ( البقرة : 276 ) ، فالزيادة على رأس المال ربا وظلم ، يقول الإمام ابن تيمية : ” الربا فيه ظلم محقق لمحتاج ، ولهذا كان ضد الصدقة ، فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء ، فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك ، فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه وظلمه زيادة أخرى ، والغريم محتاج إلى دينه . فهذا من أشد أنواع الظلم ، ويعظمه : لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكله وهو الآخذ ، وموكله وهو المحتاج المعطي للزيادة ، وشاهديه ، لإعانتهم عليه ” ( القواعد النورانية 117 ) .

وإذا كان ربا الجاهلية ظلمه ظاهر على المقترض المحتاج للمال ضرورة ، فيعجز عن السداد فيزاد عليه حتى يباع عليه ما يملك أو يستعبد هو نفسه ، فإن ربا البنوك في المعاملة محل الفتوى ، الضعيف فيها هو المقرض المغلوب على أمره الذي لا يستطيع أن ينمي أمواله ويستثمرها ، فيعطلها إذ يدفعها إلى المقترض يتقوى بها على الباطل والحرام فيستثمرها في الربا وهذا ضرره أبلغ فإن ضرر المدين المضطر على نفسه والظلم واقع عليه ابتداء ، لكن ضرر البنك خاصة أكبر لأنه ضرر على المجتمع بأسره في تعطيل المال ، وحرمان المجتمع من التنمية . ولا يخفي أن الظلم ظلم سـواء من الدائن أو المدين ، فالبنك المدين هنا يظلم الدائن إذ يعطيه القليل فهذه الفائدة بحد ذاتها ظلم ومانحها ظالم ، ثم يتحول بمال المدين الذي ملكه ليصبح دائناً قوياً يأخذ أكثر مما أعطى ، فضرره ثنائي مضاعف . ولقد بحت أصوات الاقتصاديين في التنبيه على أضرار الربا المدمرة للأفراد والمجتمعات والدول  وأنها السبب الرئيسي في تباعد طبقات المجتمعات في المجتمع الواحد بين فئاته وبين الدول الغنية والفقيرة . حيث يكبل القوي الضعيف بالديون وفوائدها فيستغل خيراته ويستعبد أهله .

ولسنا هنا في معرض بيان آثار الربا ومساوئه على الفرد والأسرة والمجتمع والدول والاقتصاد العالمي برمته ، فهذا قد خصصت له بحوث مطولة من علماء الاقتصاد قبل علماء الشريعة .

والفتوى تشير بوضوح إلى أن للبنك مطلق الحرية في استثمار المال كله لصالحه بعد ان يتفضل بالقليل لأصحاب الأموال ، وتعلل الفتوى حل ريع هذا الاستثمار لأموال المودعين ” بأنه حق خالص لهذه البنوك مقابل جهدهم ونشاطهم ” فكيف يكون هذا الظلم حقاً وهو استغلال لأموال أصحاب الأموال ، وكيف يكون حقاً خالصاً وهو إنما يستثمره في الحرام البين ، لأن من سطر هذه الفتوى ووافق عليها يعلم قبل غيره أن البنك إنما يستثمرها في بنوك أخرى بطريق الربا لا غير .

 

هـ الفقرة الخامسة :

” وقد يقال : إن البنوك قد تخسر فكيف تحدد هذه البنوك للمستثمرين أموالهم عندها الأرباح مقدماً ؟ .

والجواب : إذا خسرت البنوك في صفقة ما فإنها تربح في صفقات أخرى ، وبذلك تغطي الأرباح والخسائر” .

هذه الفقرة تؤكد أن أصحاب الفتوى العلماء حفظهم الله يدركون أن البنوك ضامنة للربح لأنها لن تخسر فان البنك ضامن ربحه في صفقته مع البنوك الأخرى ، وعلى فرض الخسارة فان البنك يوزع المخاطر فيعقد عدة صفقات مع بنوك أخرى . فالخسارة إن وقعت محدودة ونادرة . والأرباح تغطي الخسائر لو وقعت ، والصفقات المشار إليها معلوم لدى من يفتي بأنها صفقات ربا لا ريب . إذ البنوك ممنوعة من أي صفقات في غير الربا . ولا تمتنع البنوك من إعطاء الفائدة لأصحاب الأموال . وإلا فالقضاء ينصفهم لان القضاء يعتبر الفائدة المحرمة حقاً للمقرض وواجباً لا ينفك أداؤه عن المقترض.


و الفقرة السادسة :

” والخلاصة ان تحديد الربح مقدماً للذين يستثمرون أموالهم عـن طريق الوكالة الاسـتثمارية في البنوك أو غيرها حلال لا شبهة في هذه المعاملة فهي من قبيل المصالح المرسـلة وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز التغيير أو التبديل فيها . وبناء على ما سبق فان استثمار الأموال لدى البنوك التي تحدد الربح أو العائد مقدماً حلال شرعاً ولا بأس به ” .

هذه الفقرة تكـرر المعاني السـابقة فتقر بأن تحديد الربح أو بالمعنى الصحيح اشتراط ضمان الربح حلال ما دام مبنياً على الوكالة الاستثمارية المقصود الوكالة بالاستثمار في البنوك أو غيرها ، وهنا يدخل في الفتوى غي البنوك من الشركات والمؤسسات المالية ، واعتقد أن المراد هو البنك السائل وهو ” بنك الشركة المصرفية العربية الدولية وغيره من البنوك ، ولكن سرعة الصياغة ربما أوقعت في هذا اللبس غير المراد . وتؤكد الفقرة بان هذه المعاملة حلال لا شبهة فيها . وهذا إيماء لوجود الشبهة ، وإلا لاكتفى بأن المعاملة حـلال ، وتضيف الخلاصة دليلاً آخر لم يسبق ذكره وهذا عيب في الفتوى أن تذكر دليلاً في الخلاصة لا ذكر له في أصل أدلة الفتوى ، ويحشر في الفتوى حشراً . وهو قول الفتوى بأن ” هذه المعاملة من قبيل المصالح المرسلة ” . وأظن أن من بين أعضاء المجمع الحاضرين ثلاثة من الفقهاء المختصين المتعمقين في الفقه وأصول الفقه ، وهم الوحيدون الذين اعترضوا على الفتوى . وهم يعلمون يقيناً ما معنى المصالح المرسلة . ولا أظن ذلك يخفى أيضاً على بقية العلماء الكرام . فالمصلحة المرسلة هي المصلحة التي لم يرد نص باعتبارها فينص على أنها جائزة ، ولم يرد نص بإلغائها فينص على أنها غير معتبرة وملغاة . وقد أوردت الفتوى نصاً قرآنياً ادعت انه دليل اعتبار هذه العاملة وهي قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) فتكون مصلحة معتبرة لا مصلحة مرسلة بناءً على هذه الآية .  وقد بينا أن الاستشهاد في غير محله ولم يبق إلا أن هذه المعاملة محرمة وهي من الربا ، وهي حينئذ مصلحة ملغاة بالنص القاطع وهي آي من التحريم من القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع فقهاء الأمة . فهي مصلحة يتحقق فيها شرط الإلغاء . ثم إن عبارة ” إنها من قبيل المصالح المرسلة وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز التغيير أو التبديل فيها ” عبارة غير سليمة علمياً ، فان العقائد والعبادات لا تقابل بالمصالح المرسلة ، وإنما يقابل بالمصالح المرسلة المصلحة المعتبرة التي ورد النص باعتبارها ، والمصلحة الملغاة التي ورد النص بإلغائها والمصلحة العامة والخاصة التي وردت النصوص باعتبارها ، فمحل المصالح والمصالح المرسلة هو في المعاملات ، ومن المعاملات المحققة للمصالح ما لا يجوز فيها التبديل أو التغيير بإدخال شروط أو إلغاء بعضها كعقد السلم والاستصناع والمضاربة ونحوها مما بني أصلاً على المصالح . وإنما العبادات والعقائد يمكن أن تقابل المصلحة بالمعنى العام ، لان المصلحة تتغير بتغير الزمان والمكان ، ولكنها وفق ضوابطها ، بألاّ تخالف نصاً من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس ، وألاَ تفوت مصلحة أكبر .

وبناء على ما سبق من هذا البيان المستقرئ للفتوى بالرد والتصحيح فانه يسعنا القول إن هذه الفتوى مردودة لمصادمتها نصوص الشرع القاطعة بحرمة الربا ، وخرقها لإجماع الفقهاء قديماً وحديثاً وإنها قول شاذ لا يدخل في باب الاجتهاد . إذ لا اجتهاد مع النص . ولو لم يكن في هذه الفتوى إلا شبهة الربا لبطلت إذ شبهة الربا ربا .

وتبطل هذه الفتوى بتضافر إجماع مجامع الفقه في هذا العصر بدءاً بقرار مجمع البحوث الإسلامية وقد سبق ذكر فتواه والذي شارك فيها قرابة مائه وخمسين فقيهاً من خمس وثلاثين دولة ، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي يضم الدول الإسلامية كلها ممثلة بأبرز علمائها وبحضور زهاء مائة وأربعين فقيهاً ومجمع الفقه برابطة العالم الإسلامي ، وفيما يلي ذكر هذه الفتاوى ، وتذيلها بفتوى فضيلة شيخ الأزهر عينه ونفسه الشيخ محمد سيد طنطاوي . وكل هذه الفتوى في الموضوع نفسـه إقراض البنك ومنح البنك فائدة على هذا الإقراض .


 

أولاً : فتوى وقرار مجمع الفقه الاسلامي

بمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم : 10 ( 10 / 2 )

في حكم التعامل المصرفي بالفوائد ، وحكم التعامل بالمصارف الاسلامية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أما بعد :

فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ ، الموافق 22- 28 ديسمبر 1985م .

بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر .وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي ، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث .

وبعد التأمل فيما جره هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما في كتاب الله من تحريم الربا جزئياً وكلياً تحريماً واضحاً بدعوته إلى التوبة منه ، والى الاقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قل أو كثر ، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين .

قرر :

أولاً :  أن كل زيادة ( أو فائدة ) على الدين الذي حل اجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله ، وكذلك الزيادة ( أو الفائدة ) على القرض منذ بداية العقد : هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً .

ثانياً :  أن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام هي التعامل وفقاً للأحكام الشرعية  – ولا سيما ما صدر عن هيئات الفتوى المعنية بالنظر في جميع أحوال التعامل التي تمارسها المصارف الإسلامية في الواقع العملي .

ثالثاُ :  قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف الإسلامية القائمة ، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته . والله أعلم .

 

ثانياً : فتوى وقرار مجمع رابطة العالم الإسلامي

القرار السادس

بشان تفشي المصارف الربوية وتعامل الناس معها وحكم أخذ الفوائد الربوية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم . أما بعد :

فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 12 رجب 1406هـ إلى يوم السبت 19 رجب 1406هـ قد نظر في موضوع ” تفشي المصارف الربوية ، وتعامل الناس معها وعدم توافر البدائل عنها ” وهو الذي أحاله إلى المجلس معالي الدكتور الأمين العام نائب رئيس مجلس الإدارة .

وقد استمع المجلس إلى كلام السادة الأعضاء حول هذه القضية الخطيرة ، التي يقترف فيها محرم بين ، ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع ، وأصبح من المعلوم من الديـن بالضرورة ، واتفق المسلمون كافة على انه من كبائر الإثم ، والموبقات السبع ، وقد آذن القرآن الكريم مرتكبيه بحرب من الله ورسوله ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين . فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) ( سورة البقرة 278-279) .

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه ( لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء ) رواه مسلم .

كما روى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم : ” إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل ” وروى نحوه ابن مسعود .

وقد أثبتت البحـوث الاقتصادية الحديثة ان الربا خطر على اقتصاد العالم وسياسته ، وأخلاقياته وسلامته ، وانه وراء كثير من الأزمات التي يعانيها العالم . وأن لا نجاة من ذلك إلا باستئصال هذا الداء الخبيث الذي هو الربا من جسم العالم ، وهو ما سبق به الإسلام منذ أربعة عشر قرناً .

ومن نعمة الله تعالى أن المسـلمين بدأوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم ووعيهم لهويتهم ، نتيجة وعيهم الديني ، فتراجعت الأفكار التي كانت تمثل مرحلة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية ، ونظامها الرأسمالي ، والتي وجدت لها يوما من ضعاف الأنفس من يريد أن يقر النصوص الصريحة الثابتة قسراً لتحليل ما حرم الله ورسوله . وقد رأينا المؤتمرات والندوات الاقتصادية التي عقدت في اكثر من بلد إسلامي ، وخارج العالم الإسلامي أيضاً ، تقـرر بالإجماع حرمـة الفوائد الربوية ، وتثبت للناس إمكان قيام بدائل شرعية عن البنوك والمؤسسات القائمة على الربا .

ثم كانت الخطوة العملية المباركة ، وهي إقامة مصارف إسلامية خالية من الربا والمعاملات المحظورة شرعاً ، بدأت صغيرة ثم سرعان ما كبرت ، قليلة ثم سرعان ما تكاثرت حتى بلغ عددها الآن في البلاد الإسلامية وخارجها اكثر من تسعين مصرفاً .

وبهذه كذبت دعوى العلمانيين وضحايا الغزو الثقافي الذين زعموا يوماً أن تطبيق الشريعة في المجال الاقتصادي مستحيل ، لأنه لا اقتصاد بغير بنوك ، ولا بنوك بغير فوائد .

وقد وفق الله بعض البلاد الإسلامية مثل باكستان لتحويل بنوكها الوطنية إلى بنوك إسلامية لا تتعامل بالربا أخذاً ولا عطاءً ، كما طلبت البنوك الأجنبية أن تغير نظامها بما يتفق مع اتجاه الدولة ، وإلا فلا مكان لها . وهي سنة حسنة لها اجرها واجر من عمل بها إن شاء الله .

ومن هنا يقرر المجلس :

أولاً : يجب على المسلمين كافة ان ينتهوا عما نهى الله تعالى عنه من التعامل بالربا ، أخذاً أو عطاءً ، والمعاونة عليه بأية صورة من الصور ، حتى لا يحل بهم عذاب الله ، ولا يأذنوا بحرب من الله ورسوله .

ثانياً : ينظر المجلس بعين الارتياح والرضا إلى قيام المصارف الإسلامية ، التي هي البديل الشرعي للمصارف الربوية ويعني بالمصارف الإسلامية كل مصرف ينص نظامه الأساسي على وجوب الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء في جميع معاملاته ويلزم إدارته بوجوب وجود رقابة شرعية ملزمة . ويدعوا المجلس المسلمين في كل مكان إلى مساندة هذه المصارف وشد أزرها ، وعدم الاستماع إلى الشائعات المغرضة التي تحاول التشويش عليها ، وتشويه صورتها بغير حق .

ويرى المجلس ضرورة التوسع في إنشـاء هذه المصارف في كل أقطار الإسلام ، وحيثما وجد للمسلمين تجمع خارج أقطاره ، حتى تتكون من هذه المصارف شبكة قويه تهيئ لاقتصاد إسلامي متكامل .

ثالثاً : يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج ، إذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي ، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب ، ويستغني بالحلال عن الحرام .

 

ثالثاً : فتوى الشيخ محمد سيد طنطاوي

سئل فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي شـيخ الازهر عن شهادات الاستثمار وهي مماثلة لمحل السؤال يوم أن كان مفتياً في 14 مـن شـهر رجب عام 1409هـ ( 20/2/1989م ) .

فأجاب : ” يقول تبارك وتعالى :

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ” ( الآيتان 278 ، 279 من سورة البقرة ) .

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روي عن أبي سعيد قال : ” الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيـد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء ” ( رواه احمد والبخاري ) .

وأجمع المسلمون على تحريم الربا .

والربا في اصطلاح فقهـاء المسلمين هو زيادة مال في معاوضة مال بدون مقابل . وتحريم الربا بهذا المعنى امر مجمع عليه في كل الاديان السماوية .

لما كان ذلك :

وكان إيداع الأموال في البنوك ، أو إقراضها ، او الاقتراض منها ، بأي صورة من الصور مقابل فائدة محددة مقدماً زمناً ومقداراً يعتبر قرضاً بفائدة ، وكل قرض بفائدة محددة مقدماً حرام ، كانت تلك الفوائد التي تعود على السائل داخلة في نطاق ربا الزيادة المحرم شرعاً بمقتضى النصوص الشرعية .

ننصح كل مسلم بأن يتحرى الطريق الحلال لاستثمار ماله والبعد عن كل مل فيه شبهة الحرام ، لأنه مسؤول يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه . والله سبحانه وتعالى أعلم .

ثم سئل في السنة ذاتها بعد شهر في شعبان 1409هـ عن شهادات الاستثمار وهي مطابقة لموضوع الفتوى الحالية فكان جوابه :

” شهادات الاستثمار ذات الفائدة المحددة مقدماً زمناً ومقداراً مثل شهادات ” أ ” ، ” ب ” ، هي قرض بفائدة الوصف تكون الفائدة من ربا الزيادة المحرم شرعاً بنص الكتاب والسنة والإجماع ” .

حفظ الله الأزهر الشريف بشرف ما يحمل من علم الكتاب والسنة ، وحفظه مشعل هداية جبلاً أشم شامخاً ينافح ويدافع بعلمائه الراسخين في العلم عن الإسلام وعلوم الشريعة ، ويحمي بيضة الإسلام وحوضه أن يثلم أو دعوته أن تشوه ، وأن يحفظه من الكبوات العارضات .

وما يضير البحر أمسى زاخراً

                   إن رمى فيــه غلام بحجر


وقريباً قال شوقي عن الأزهر قصيدته العصماء ومطلعها :

قم في فم الزمان وحي الأزهرا

                 وانثر على سمع الزمان الجواهرا

وقال في فقهائه الراسخين علماً :

كانوا أجل من الملوك جلالة

                 وأعز سـلطاناً وأفخم مظهراً

 

وفيما يلي الفتاوى الثلاث فتمعنها تجد فيها جواباً شافياً ورداً مفحماً على هذه الفتوى النشاز . وخصصنا هذه الفتاوى الثلاث أنموذجاً لمثيلاتها الصادرة من جهات علمية مرموقة ومجامع وندوات علمية عديدة .

 

شاهد أيضاً

الوطن والمواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية

الوطن والمواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية

التحوط في المعاملات المالية

بحث التحوط في المعاملات المالية

تحويل البنوك التقليدية لبنوك اسلامية ( المبادئ والضوابط والإجراءات )

تحويل البنوك التقليدية إلى بنوك اسلامية