الرئيسية / المقالات / التعليقات على بحث " مدخل إلى أصول وفقه الأقليات "

التعليقات على بحث " مدخل إلى أصول وفقه الأقليات "

 

التعليقات على بحث ” مدخل إلى أصول وفقه الأقليات “

للأستاذ الدكتور طه جابر العلواني

 

تعليقات

الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي

 

 المقدم لاجتماع المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

المنعقد في لندن

في الفترة من 20 – 24 جمادى الآخرة 1425 هـ

 

 

مقدمه

       هذه تعليقات علمية على بحث الأخ الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني الموسوم بـ ” مدخل إلى أصول وفقه الأقليات ” وما حملني على تدوين هذه التعليقات إلا حرصي على أن يكون لي إسهام في ترشيد ” فقه الأقليات ” لأهمية الموضوع وأهمية آثاره ومآلاته ، وقد وجدت في البحث عمقاً وفقهاً لا ينكر ، بل يقر ويشكر ، ولا شك أن البحث قد استغرق من الدكتور طه جهداً ومعاناة ومعايشة ومناقشات ووقائع أحوال وتجارب أورثت لدى الدكتور طه قناعة بأهمية الموضوع ، ومن قرأ البحث أدرك هذه الأهمية.

       ورغم الفوائد الجمة ، والاستلالات العلمية الفقهية الدقيقة , وتقعيد بعض المسائل المشكلة وتكييفها فقها ، إلا أن البحث – في نظري – قد شابه العديد من المسائل والقضايا والاجتهادات التي تحتاج إلى إعادة نظر وتمحيص علمي فقهي يوثق البحث ويؤصل قضاياه على وفق الضوابط والقواعد المنهجية التي وضعها الفقهاء المجتهدون.

       ولقد أكد أهمية الحاجة إلى مزيد تمحيص وتدقيق نظر ، شمول البحث للتأصيل الأصولي أو ما عبر عنه عنوان البحث ” مدخل إلى أصول وفقه الأقليات”.

       وما أبديت أي تعليق إلا واستحضرت على من أعلق وأقصد بالقول ، إنه الزميل الأخ الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني من جمعني وإياه التخصص ومكانه وزمانه ، فنحن أتراب وأقران وتخرجنا بجامعة واحدة هي جامعة الأزهر، وتخصص واحد هو تخصص أصول الفقه ، وقبل هذا وبعده فشيوخه شيوخي ، بل شيخ إجازتنا في الدكتوراه واحد ، الشيخ الهمام العالم العلامة ، من لم تر عيني مثله إلا ما ندر ، ممن جمع بين العلم والأدب ، يزينهما دماثة خلق وتقوى وكرم وابتسامة لا تفارق محياه ، كيف لا ونسب والده – العالم الفقيه محمد عبدالخالق – لأمه ينتهي بالدوحة النبوية ، ويتصل نسبه لأبيه بالصحابي الجليل أبي موسى الأشعري ، هو الشيخ أبو الكمال عبدالغني عبدالخالق رحمه الله رحمة واسعة ، فالحمد لله الذي مَنَّ بكرمه علي وعلى الأخ طه بنعمة التلقي عن هذا الشيخ الجليل رحمة الله عليه.

       أقول ذلك لأفسح لنفسي في التعليق ، فألين في اللفظ عامة ، وأشدد فيه في مواضع خاصة حتى أصل باللفظ إلى التعنيف ، وما أصل إلى هذا إلا إذا كان الموضع لا يصلح معه وفيه إلا ذاك ، معتمداً على ما أعلم من أخي من سماحة وسعة صدر ، ولا أُخفي أنه إن اطلع رد وناقش ونافح ، وهو ذو حجة قوية ، وقوة في الاستدلال والترجيح يدركها من اطلع على تحقيقه لكتاب ” المحصول في علم أصول الفقه ” للإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي ، وهذا – إن شاء الله – لا يمنعه من التسليم ، وتصحيح ما قد وقع فيه من خطأ ، وما من أحد إلا يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر r .

       وخطة النظر في البحث تتلخص في عرض الفكرة أو الفقرة كما هي ، ثم أتبعها بالتعليق ، وأبدأ بتمهيد في تحرير العنوان ، ثم أتناول بالدراسة أهم مسائل البحث ، وهي : موقع فقه الأقليات من الفقه العام والأسباب المنهجية الأربعة الداعية إلى تجاوز الفقه الجزئي الموروث ، والأسباب السبعة المتعلقة بتحقيق المناط الداعية إلى تجاوز الفقه الجزئي الموروث أيضاً ، والأصول التي يقوم عليها فقه الأقليات ، ويتخلل هذه المفاصل جزئيات عديدة أَدْرَكَها التعليق أيضاً.


 

 

   1 –       عنوان البحث : ” مدخل إلى أصول وفقه الأقليات ”

يعبر العنوان عن مضمون البحث من حيث الجملة ، لا على وجه الدقة فهو يتناول موضوع ” فقه الأقليات ” ، وهو المعنى المقصود من البحث أساساً ، كما يتناول الأصول التي ينبغي أن يبنى عليها هذا الفقه ، والعنوان يوهم أن موضوع البحث هو أصول فقه الأقليات ، والبحث وإن تضمن جزئيات في أصول الفقه ، لكن الأصول المعنية في البحث هي القواعد والمبادئ التي يقوم عليها فقه الأقليات، والعطف أو الفصل بين أصول وفقه بالواو شوش على المراد . إذ أصبح المعنى أصول الأقليات وفقه الأقليات ، بينما المراد هو قواعد أو مبادئ فقه الأقليات ، وكان الأولى وضع العنوان كالآتي : ” فقه الأقليات ، قواعده ومبادئه ” أو ” قواعد ومبادئ فقه الأقليات ، وعليه فكلمة أصول لا محل لها باعتبارها مصطلحاً أصولياً صرفاً يراد به عند إضافته إلى الفقه ، أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد. فإضافة أصول إلى الأقليات لا معنى لـه إلا أن يراد بها القواعد والمبادئ العامة.

وأما إضافة كلمة ” فقه ” إلى الأقليات فهي إضافة سليمة واضحة تشير إلى أن هناك أقليات تحتاج إلى فقه مخصوص.

ولما كانت معرفة المركب متوقفة على جزئية ، كان لابد من معرفة ” الفقه” و ” الأقليات ” ، أما الفقه : فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية. وأما الأقليات فسيأتي على الفور بيان معناها ، ليصبح معني فقه الأقليات ، العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية المتعلقة بالأقليات ، وهذه الإضافة فيها إشكال لا محيص عنه سنأتي على ذكره.


 

وفيما يلي تعريف الدكتور طه للأقليات :

الأقليات : مصطلح سياسي جرى استعماله في العرف الدولي المعاصر ، يقصد به مجموعة أو فئات من رعايا دولة من الدول تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية.

وهذا الاستعمال مبني على التفسير الدستوري والقانوني الذي جرى تداولـه في إطار مفهوم ” الدولة القومية ” في أوروبا ، أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد كانت الفلسفة الأساسية تقوم على الفردية ، والجماعات التي يفرزها المجتمع يغلب أن يكون تجمعها على أساس من مصالح وحاجات تجمع قطاعاً من الناس لتحقيقها للأفراد الذين ربطت بينهم تلك المصالح.

التعليق :

تعريف ” الأقليات ” باعتباره مصطلحاً سياسياً . يراد به الأقليات التي تحتاج إلى من يحافظ على حقوقها الدينية أو السياسية أو الاجتماعية ، ونحو ذلك حذراً من أن تهضم الأكثرية هذه الحقوق ، ولذلك لا يصلح استخدام هذا المصطلح في الدول الأوربية ، وإن كان تداول هذا اللفظ يصلح في الدولة القومية فإن نظم معظم هذه الدول الأوربية تقوم حالياً على مفهوم ” العلمانية ” بالمعني العام ، وهو نظام لا ينظر إلى الفئوية أو الطائفية الدينية أو غيرها ، بمعنى أن هذه الأوصاف لا محل لها في تقرير الحقوق والالتزامات.

وهذا أظهر في المجتمع الأمريكي كما قال الدكتور طه ” بأن هذا المصطلح لم يثر في المجتمع الأمريكي لأن ” المواطنة ” في الولايات المتحدة تقوم على التعاقد بين الفرد والدولة الأمريكية على احترام الدستور وسائر القوانين .. وتقوم على دفع الضرائب في وقتها ، وعدم الغش فيها أو التحايل عليها ، فإذا حقق الفرد هذين الشرطين فهو ومواطن صالح يستحق أن يحصل على حقوقه المختلفة ” وهذا لا يمنع أن يكون للموطنة شروط وحقوق والتزامات تختلف بين المواطنين والمقيمين ، لكن ما نريد الوصول إليه . أن الأقلية دينية أو غيرها لا اعتبار لها في تقرير الحقوق والالتزامات ، وإن كانت الاعتبارات السياسية – خاصة بعد 11 سبتمبر – قد تتجاوز النظم والقوانين وتعطي للتوجهات الدينية بخاصة اعتبارات معينة.

وهذا المعني لمصطلح ” الأقليات ” غير مناسب أو ليس مصطلحاً معبراً بدقة عن وجود المسلمين في تلك الديار ، وغاياتهم.

ومما نرى أنه يؤكد ويعزز عدم دقة أو صلاحية مصطلح ” الأقليات ” للتعبير عن واقع المسلمين وعن هدفهم من التوطن في تلك الديار باعتبارهم مواطنين متمسكين بهويتهم ، وأن من أهدافهم نشر هذا الدين في البلاد التي يتوطنون فيها ، الإيحاءات والدلالات الآتية لمصطلح ” الأقليات ” :

  يوحي لفظ ” الأقليات ” إلى الفئوية والتقوقع ، أو شيء من الاعتزال المعيشي ، والعزلة الشعورية النفسية ، وهذه النظرة تدعو إلى إثبات الذات بالتميز في المظاهر والشعائر ، والشعور بأنهم أقل شأناً من أهل البلاد الأصليين ، كما يدعو إلى وضع الحواجز بين المسلمين وغيرهم.

وأرى أن البديل الصحيح أو الأقرب للصحة ، الذي يحسن أن يشاع في تلك الديار هو مصطلح ” فقه تعايش المسلمين في أوربا ” أو ” فقه تعايش المسلمين في أمريكا ” ، وهكذا ونتحاشى مصطلح الأقليات. ومصطلح ” التعايش ” هذا له إيحاءات ودلالات دعوية شرعية عميقة تخدم الأهداف الآنية والمستقبلية لوجود المسلمين في تلك الديار ، ومن هذه الإيحاءات والدلالات لمصطلح ” التعايش ” أنه :

   تعبير مباشر للهدف الذي من أجله وجد المسلمون في تلك الديار فإقامتهم لها صفة التعايش والاستمرار والديمومة والتوطن.

  مصطلح فيه معني المشاركة والإيجابية والتفاعل مع أفراد المجتمع ومؤسساته وثقافاته ونظمه ، والمشاركة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ونحوها.

  مصطلح يبتعد عن معاني التميز والعزلة والخصوصيات ، ولذا فهو تعبير محبب مقبول للطرف الآخر يستوعبه ، ولا ينفر منه ، لأنه يرنو إلى هدف مشترك.

  يحمل هذا المصطلح المعاني السياسية بشكل مباشر ومتساو مع الآخر ، فكما يتعايش النصارى مع اليهود وهم مندمجين في المجتمع ومتغلغلين في مؤسساته ، ومؤثرين في توجهاته السياسية ، فكذا تعايش المسلمين ينبغي أن يكون على قدر المساواة ، وبصفة الفاعلية والتأثير باعتبارهم مواطنين لا باعتبارهم أقلية تبحث عن حقوقها ، أو تستجديها.

  مصطلح يحقق المقصد الشرعي والدعوي من وجود المسلمين ، فالدين المعاملة أي التعايش والمشاركة ، وهذا المصطلح سيبعث في المسلمين هذه المعاني الدعوية ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وهم أقلية في مكة يعايشون المجتمع ويتعاملون معه بصفة المواطنة ، وإن كانوا أقلية محاربة عقائديا وفكريا.

  المصطلح فيه معني الحرص على أمن البلاد التي يعيش فيها المسلمون، والالتزام بالواجبات ، واحترام النظم والقوانين ، فالإنسان يتعايش مع الآخرين لتحقيق هذه المقاصد المشتركة.

فقه الأقليات :

إن إضافة ” فقه ” إلى ” الأقليات ” لا يستقيم بشكل دقيق من الناحية الاصطلاحية لمقصود الفقه ؛ ومرجع ذلك إلى أن متعلق الفقه هو الأفعال الصادرة عن المكلفين ، فيتعلق بصلاة المكلفين ، وصومهم ، وحجهم ، ومعاملاتهم ، وما إلى ذلك ، كما يتعلق بما كان سبباً أو شرطاً أو مانعاً ، فإضافة ” الفقه ” إلى ” الأقليات ” إضافة إلى مسمى أو عنوان لا تلحقه الأحكام ، ولا تتعلق به من حيث هو ، فالأحكام لا تتعلق بالأقليات من هذه الحيثية ، وإنما تتعلق فأفعالهم وظرفهم وزمانهم ، ووقائع أحوالهم ، فيقال ما هو حكم بيع وشراء ومشاركة وعمل الأقليات ، ولا يقال ما هو حكم الأقليات ، نعم يمكن القول فقه الموازنات ، فقه الأولويات ، ونحو ذلك ، لأن الإضافة هنا إلى عمل أو صفة فالموازنات والأولويات ليست بين أسماء أو مسميات ، وإنما هذه اختيارات ، أو تقديم وتأخير بين فعل وآخر ، أو فعل أو ترك ، فمحل الموازنات ومحل الأولويات فروع ووقائع أو اجتهادات ، وكذلك الفقه الطبي أو الفقه السياسي إضافة إلى الأحكام المتعلقة بالقضايا الطبية أو السياسة … إلخ ، فيمكن تعلق الفقه بها لبيان حكمها بناء على دليل تفصيلي وجزئي ، أما ” الأقليات ” فليس لها محل باعتبارها أقلية فلا يقال ما حكم الأقلية ، كما أنه لا اعتبار للأكثرية من حيث هي أكثرية ، وإنما الاعتبار لوقائع أحوال الأقلية ، ولظرفها ، لزمانها، ولمكانها .

       وكذلك الشأن لو قلنا أصول فقه الأقلية . أي الأدلة التي تستنبط منها الأحكام الجزئية للأقليات . في حين أن الأقليات لا تتميز بأصول خاصة بهذا الوصف لما سبق ذكره.

       ويختلف الأمر حين نستخدم لفظ ” فق التعايش ” فإن الفقه هنا إضافة إلى عمل ، فيقال : ما حكم تعايش المسلمين مع غيرهم ، ومشاركتهم مشاركة سياسية أو تعاملاً تجارياً ، ونحو ذلك ، فالتعايش لا بد وأن يكون لـه محل يصلح لوصفه بحكم شرعي ، ويسع القول هنا أيضاً ” أصول فقه التعايش ” بمعنى قواعد ومبادئ فقه التعايش ، ولا يكون المراد مصطلح ” أصول الفقه ” أي أدلة الفقه الإجمالية.

وبناء على هذا فأرى أن قول الدكتور طه : ” تسمية فقه الأقليات تسمية دقيقة ، واصطلاح مقبول ، ولا مشاحة في الاصطلاح غير مسلم أنها تسمية دقيقة، ولكن يمكن قبولها مصطلحاً لا مشاحة فيه ما دام قد جرى استخدامه وتوطأ الباحثون عليه ، ولم يكن مقصودهم أن لهم فقهاً خاصاً مطلقاً ، وإنما يصح القول أن لهم فقهاً خاصاً بمعنى أنه جزء من الفقه العام يلتزم بقواعده وضوابطه ، ولكنه في الوقت ذاته يأخذ بالاعتبار ظرف وزمان ومكان هذه الأقلية ، وحينئذ لا مشاحة فيه، وهذا الذي اتجه إليه الشيخ يوسف القرضاوي – حفظه الله – حين عنون لفقه الأقليات بقوله : فقه خاص في دائرة الفقه العام فقال : ” إن فقه الأقليات المنشود لا يخرج من كونه جزءاً من الفقه العام ، ولكنه فقه لـه خصوصيته وموضوعه ومشكلاته المتميزة “.

 

  2 –    الوعي العام بالشرعية :

تحت هذا العنوان يتكلم الدكتور طه عن سهولة الإسلام ويسره ، للعامة من الناس والخاصة من الفقهاء لكن الموضوع لم يخل من التساهل والخلط فيما تدركه العامة ، وما لا تدركه ، وما هو من شأنهم وما هو من شأن الفقهاء المتخصصين فالتنظر إلى عبارته ثم نتبعها التعليق يقول حفظه الله :

فأية معلومة دينية أو شرعية صغرت أو كبرت في الأديان الأخرى هي ميدان لنظر أهل الاختصاص وحدهم أو الكهنة ، وهم وحدهم الذين ينفردون بالنظر فيها والحكم عليها وإبلاغ العامة ما يتوصلون إليه.

أما في شريعة الإسلام فإن ميادين تصرفات أهل النظر والاجتهاد قد تم تحديدها وحصرها ، وإشراك العامة فيها ، فالعامي يجتهد في اختيار المجتهد الذي يتابع اجتهاداته ويقلده ، والعامي يجتهد في ” الأحكام الوضعية ” من الأسباب والشروط والموانع ، والعامي يشارك المجتهد في تكييف الوقائع ، كما أن هناك ما لا يسع العامي جهله فضلاً عن غيره . لذلك سمح المجتمع المسلم ببروز طائفة عرفت ” بأهل القلم ” مقابل الطائفة التي عرفت ” بأهل السيف ” لكنه لم يتسع لإيجاد طبقة يقال لها : ” رجال الدين ” أو هيئة إكليروس ” أو ” هيئة كبار العلماء ” يمكن أن تهيمن على مصادر الدين وتحتكر تفسيرها وتأويلها بحيث لا يتمكن أحد من خارج دوائرهم أن يصل إليها ، أو يقوم بدراستها وتفسيرها أو تأويلها ، فتجعل تلك الطائفة من نفسها مرجعاً تنحصر فيه تلك المسئوليات وتناط به تلك الصلاحيات ، فذلك – كله – أمـر يتنافى وطبيعة الإسلام ، ولو أراد أحد فعله لما تمكن من ذلك ، وقد ترفضه العامـة قبل الخاصة ؛  لأن القرآن ميسر للذكر ، وهو مأدبة الله – تعالى – الممدودة التي لا يملك أحد احتكارها لنفسه حتى لو أراد ، ويستطيع أي قارئ لهذا الذكر الميسر ، بل أي مصل أن يعرف هذه البديهيات.

التعليق :

فيما يتعلق بتحديد علاقة العامي بالفقيه ، وميدان نظر كل منهما جرى فيه التساهل في العبارات ، وشيء من خلط قليل ، وفي بعضها كثير ، ونوضحه فيما يأتي.

إشراك العامة فيما تم تحديده وحصره في ميادين تصرفات أهل النظر والاجتهاد ، هذا تعبير غير سليم على إطلاقه ، فإن ميادين أهل النظر والاجتهاد هي إعمال الفكر ، وبذل غاية الوسع لاستنباط الأحكام ، وإصدار الفتاوى  وما إلى ذلك ، أما العامي فشأنه السؤال وتلق الجواب.

وأما أن العامي يجتهد في اختيار المجتهد الذي يتابع اجتهاداته ويقلده فالإطلاق يعوزه التقييد ، فتخير العامي مقيد في استفتاء من يثق بعلمه وتقواه ، ولا يتخير حسب أهوائه ومبتغاه.

وأما عبارة : أن العامي يجتهد في ” الأحكام الوضعية ” من الأسباب والشروط والموانع ، فلا نعلم أحداً أعطى العامي أن يجتهد في الأحكام الوضعية ، وكيف يجتهد فيما لا شأن لـه ، ولا علم لـه به ، فالأحكام الوضعية قسيمة الأحكام التكليفية ، وهما قسمان للحكم الشرعي ، ومعرفة الأسـباب والشروط والموانع من دقائـق علم الأصـول ، فأنَّى للعامي أن يعرفها بله أن يجتهد فيها، فمصطلح ” الاجتهاد ” لا يسوغ وصف العامة به البته، وأما أن العامي يشارك المجتهد في تكييف الوقائع ، فعبارة يحوطها الغموض ، إذ تكييف الوقائع يعني معرفة مناطاتها، ولا دخل للعامي في ذلك سوى سرد الواقعة ، مع استفصال المجتهد أو المفتى ما يحتاجه عما يلزم معرفته لابتناء الحكم.

وأما ختام الفقرة بقوله : لم يتسع المجتمع المسلم لإيجاد طبقة يقال لها رجال دين .. أو ” هيئة كبار العلماء ” يمكن أن تهيمن على مصادر الدين وتحتكر تفسيرها وتأويلها بحيث لا يتمكن أحد من خارج دوائرهم أن يصل إليها … أمر يتنافى وطبيعة الإسلام ” هذا قول لا يسلم إذ لا مستند لـه لا من دليل ، ولا من واقع . فقد انتدب الله تعالى في كتابة وأمر بالتفقه بالدين ، وأوجب الرجوع في معرفة الأحكام إلى أهل الاستنباط وهم أهل الفقه والدراية والتفسير والتأويل ، قال تعالى : ) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( ، وقال تعالى: ) وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (.

لقد تميز ديننا بطبقة الفقهاء الذين كان مرجع العامة بل والحكام إليهم ولا يسعهم إلا الرجوع إليهم فهم أهل الرأي والمشورة ، وأظهر أهل الحل والعقد ، وكانت لهم مكانتهم على مر العصور ، وإليهم ينتهي القول في الآية والحديث ، والتأويل ، ولا يخرج ذلك منهم إلى غيرهم سواء في ذلك الحكام أو غيرهم ، وهم وإن كان هذا شأنهم وهم مجتهدو الأمة لا يمنعون أحداً ملك أدوات الاجتهاد أن يجتهد ما دام من أهله واجتهد في محله ، ووجود هذه الفئة أو الطائفة أو الطبقة هو متقضي أو من مقتضيات ومستلزمات الإسلام روحه وطبيعته.

 

  3 –    موقع فقه الأقليات من الفقه العام :

يقول الدكتور طه : ” لا يمكن إدراج ” فقه الأقليات في مدلول الفقه ” العام كما هو شائع الآن – أي فقه الفروع – بل الأولى إدراجه ضمن ” الفقه ” بالمعني العام الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ” من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ، أو ” الفقه الأكبر ” كما دعاه الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ، وأطلقه على الكتاب المنسوب إليه .

لذلك رأينا ضرورة ربطه بالفقه الأكبر وضعاً للجزء في إطار الكل ، وتجاوزاً للفراغ أو الفصام التشريعي أو الفقهي.

ثم يقول : ” فقه الأقليات ” فقه نوعي يراعي ارتباط الحكم الشرعي بظروف الجماعة ، وبالمكان الذي تعيش فيه ، فهو فقه جماعة محصورة لها ظروف خاصة قد يصلح لها ما لا يصلح لغيرها ، ويحتاج متناولة – إضافة إلى العلم الشرعي – إلى ثقافة واطلاع في بعض العلوم الاجتماعية ، وخصوصاً علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والعلاقات الدولية.

ويختم هذه الفقرة بقوله : ” من هنا فإن تسمية ” فقه الأقليات ” تسمية دقيقة ، واصطلاح مقبول إن شاء الله شرعاً وعرفاً و ” لا مشـاحة في الاصطلاح ” وليس الهدف من تأسيسه إعطاء رخص للأقليات لا تتمتع بمثلها الأكثريات الإسلامية ، بل على العكس من ذلك ، إننا نهدف إلى أن نجعل من الأقليات بهذا الفقه نماذج وأمثلة ، وممثلين أكفاء للأمة المسلمة في البلدان التي يعيشون فيها ، فهو فقه ” النخبة ” أو النموذج ، وفقه العزائم ، لا فقه الرخص والتأويلات ، وقد توصلنا إلى بعض المحددات المنهجية التي يمكن أن تشكل دعائم المنهج الإجمالي الذي سنتبعه في الإجابة عن أسئلة المنتمين للأقليات انطلاقاً من هذا الفقه وقواعده وأصوله ، وسنأتي على توضيح المعالم الأساسية لهذه المحددات لاحقاً.

التعليق :

مضمون هذا العنوان يشير إلى عدة نقاط تحتاج إلى استدراكات ، وإبطال لنتائج قررها الدكتور طه لا تسلم له.

فتقسيم الفقه إلى فقه عام ويراد به فقه الفروع ، وفقه عام يراد به فقه الدين  وأن فقه الأقليات يربط بالفقه العام بمعني التفقه في الدين فهذا تعبير غير دقيق ، وإن كان لابد فيصح أن يربط فقه الأقليات بالفقه العام ، فقه الفروع، كما عبر عن ذلك الشيخ يوسف القرضاوي حين قال عن فقه الأقليات : فقه خاص في دائرة الفقه العام ، ثم إذا كان الفقه هو استنباط أو استخراج الأحكام من الأدلة فكيف يستخرج حكم للأقليات بواسطة الفقه العام بمعنى الفقه في الدين ، وهذا معني عام لا يمكن الاستنباط منه لان الاستنباط لا يتحقق بربط وقائع أحوال الأقليات بالأدلة الكلية من حيث عمومها ولا بالفقه بالدين ؛ لأنه أعم إذ الأدلة الإجمالية الكلية وهما الكتاب والسنة ، وبقية الأدلة المعتبرة ليسا محلاً للاستنباط من حيث هما أدلة إجمالية فهما أدلة استنباط بالقوة لا بالفعل ، وإنما يستنبط من أدلتهما الجزئية التفصيلية أي خصوص الآيات ، وخصوص الأحاديث ، ومعلوم أن علم الأصول مباحثة الأدلة الإجمالية وطرق الاستنباط ، ولذا قالوا : إن علم الأصول معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها ، وحال المستفيد ، ومباحث الفقه الأدلة التفصيلية حتى قالوا : إن علم الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية – كما سبق التنويه – فالقول بضرورة ربط فقه الأقليات بالفقه الأكبر ، فقه الدين ، وإن في ذلك وضع للجزء في إطار الكل ، وتجاوز للفراغ أن الفصام التشريعي أو الفقهي ، هذا استعمال للمصطلحات المتفق عليها في غير موضعها ، وخلط يؤدى إلى تشويش واضطراب تشريعي وفقهي على حد تعبير الدكتور طه ، نعم هو وضع للجزء في إطار الكل ، وإذا كان المراد بالفقه العام فقه الفروع نعم يصح القول أنه وضع للجزء في إطار الكل .

وأما القول – المرتب على ما سبق : أن فقه ” الأقليات ” فقه نوعي ، يراعي ارتباط الحكم الشرعي بظروف الجماعة ، وبالمكان الذي تعيش فيه  فهو فقه جماعة محصورة لها ظروف خاصة ، قد يصلح لها ما لا يصلح لغيرها… .

هذا الكلام يحتمل الصحة من حيث الواقع الذي تعيش فيه الأقليات لكن لا يسلم له أن فقه الأقليات فقه نوعي خاص ، ذاك أن قواعد الاستنباط تستلزم النظر في الظرف والحال والزمان والمكان والمآل ، حتى يستنبط الحكم الشرعي لواقعة الحال ، ولا ينظر إلى أقلية أو أكثرية من حيث هي أقلية أو أكثرية ، أو جماعة محصورة لها ظروف خاصة ، فمناطات الحكم لا تتعلق بأكثرية أو أقلية بقدر ما تتعلق بالظرف والحال والزمان والمكان ، سواء كان ذلك لأقلية أو أكثرية أو كانوا أفراداً ، فمتى ما تحقق مناط الحكم وتنقح أو تخرج واستشرفت المصلحة أو اندفعت المفسدة فثم الحكم المستنبط السليم ، وهذا أوسع وأرحب للمجتهد من أن يُحصر في فقه نوعي خاص.

وأما قول الدكتور طه : ليس الهدف من تأسيس ” فقه الأقليات ” إعطاء رخص لا تتمتع بها الأكثريات الإسلامية …  فهو فقه ” النخبة أو النموذج وفقه العزائم لا فقه الرخص والتأويلات “.

فهذا قول حجَّر فيه واسعاً من حيث يريد التوسعة ، وعسَّر على الأقليات من حيث يريـد التيسير. وفوت  من المصالح ما قد تكون الأقلية أولى به من غيرها ، تبعاً لظرفهم وأحوالهم ، فماذا يمنع الأقليات الأخذ بالرخص والتوسع فيها متى تحققت أحكام الرخص ” فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ” ولا يستدعي ذلك ابتكار فقه آخر جديد ونسميه ” فقه النخبة أو النموذج ” و ” فقه العزائم ” فالفقه عمل استنباطي وفق قواعد محددة لا شأن لـه بأقلية أو أكثرية من حيث هما أقلية أو أكثرية ، ولا هو فقه نخبة ولا نموذج.

 

  4 –    تفكيك السؤال وإعادة صياغته :

قال الدكتور : إذا ثار سؤال في محيط الأقليات أو ذا صلة بفقه الأقليات على لسان فرد ، أو دار على ألسنة جماعة ، فإن المفتي المعاصر يحتاج إلى استيعاب وتجاوز الموقف الساذج الذي يحصر الأمر بين سائل ومجيب ، سائل يعوزه الإطلاع الشرعي على حكم قضية يعيشها ، ومجيب يعتبر الأمر منتهياً عند حدود تلقي الاستفتاء وتقديم الفتوى والإفتاء ، فهذا موقف غير علمي ورثناه عن عصور التقليد ، وكرسته عقلية العوام التي استسهلت التقليد واستنامت لـه واتخذته منهجاً وجعلت الفتوى بأركانها – كلها – شأناً فردياً في الغالب.

إن المطلوب تبني موقف علمي يبحث في خلفية السؤال والسائل ، والعوامل الاجتماعية التي ولدت السؤال وأبرزت الإشكال ، وهل هو سؤال مقبول بصيغته المطروحة ، أو يتعين تعديل هذه الصيغة ، وإعادة صياغته في صورة إشكال فقهي ، ثم معالجته في ضوء رؤية شاملة تستصحب القواعد الشرعية الكلية ، والمبادئ القرآنية الضابطة ، والقيم العليا الحاكمة ، والمقاصد الشرعية الأساسية ، وتراعي – كذلك – غايات الإسلام في الانتشار والتمكين على المدى البعيد.


 

التعليق :

يعالج الدكتور طه هنا حال المستفتى والمفتى ، وما يجب أن يكون عليه المفتي من ضرورة استيعاب السؤال وموضوعه وحال السائل ، وليس في هذا الكلام جديد فما سماه الدكتور تفكيك السؤال هو عين ما يفعله المفتي ، أو ما يجب أن يفعله ، فلابد من أن يستفصل السائل عما يتوقف عليه الجواب ، من حيث بيان واقعة الحال المسئول عنها ، وظرف السائل ، مع الأخذ بالاعتبار موضوع السؤال اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو كان متعلقاً بقضايا زواج أو طلاق ، فإن أجاب دون استبيان ، أفتى على غير هدى ، وهو على خطر الخطأ والزلل ، وهذا الاستفصال والتحري للدين والفتوى هو المنهج الذي ورثناه من قبل عصور ما أسماه الباحث عصور التقليد ، وهو المنهج المتلقى عن النبي r في وقائع أحوال عديدة ، وهو ما ورثناه عن خير القرون وما تلاهم ، وما كان فقهاؤنا والمفتون يقفون الموقف الساذج بين السائل والمجيب – كما وصف الدكتور، وأن المنهج العلمي الذي يطالب به الدكتور من ضرورة معرفة خلفية السؤال والسائل هي ما كان عليه شأن الفتوى والاجتهاد.

وقد عقد فقهاؤنا وأصوليونا باباً خاصاً للمفتي والمستفتي وأشبعوه بحثاً ووضعوا أصوله وضوابطه ، وكان فقهاؤنا ينظرون إلى كل سؤال على أنه إشكال فقهي ، ولولا الاستشكال لما كان للسؤال محل ، فإذا انجلى للمفتى مفاصل السؤال وانكشفت غوامضه أجرى عليه ضوابط وقواعد وأدلة الاستنباط ومقاصده ، واستخرج الحكم المناسب للسؤال ، ومن أفتى لأقلية مسلمة في الغرب أوفى الشرق أو لأكثرية لم يأخذ في اعتباره ما ذكر فليس بفقيه  ولا مفتٍ ، ولذلك فإن كثيراً من قضايا الأقلية المسلمة في الغرب لا يحسن الإجابة عنها فقهيه مشرقي ، ولو أوتي من العلم حظاً عظيماً ، لأن محل السؤال لا يدركه إلا من عايش ظرف السائل ، ولذا كانت فتاوى الفقيه المعايش لظرف السائل وأحواله أجود من فتوى غيره ، بل لو أفتى غيره فقد تكون فتواه معيبة ، ولو تعارضت الفتويان ففتوى فقيه البلد مقدمة علي غيره إذا كان كل منهما مجتهداً في محل يصلح للاجتهاد.

 

  5 –    ضرورة الاجتهاد لبناء هذا الفقه :

تحت هذا العنوان يتكلم الدكتور طه عن الأسئلة الكثيرة التي يطرحها المسلمون الأقلية في بلاد الغرب ، وعن السبيل الأمثل للجواب عنها والحل الناجع الذي لابد من المصير إليه ، وهو اجتهاد جديد.

فيقول الدكتور بعد أن بين الواقع الجديد الذي يثير أسئلة الأقليات :

وربما حاول البعض الإجابة على هذا النمط من الأسئلة بمنطق الانطلاق من ” الضرورات ” وكونها تبيح المحظورات و ” النوازل ” والكوارث والظروف الاستثنائية ناسين أنه منطق هش لا يتسع لأمور ذات بال ، ولا يستطيع بناء مجتمع أقلية متماسك. إن لهذا المنطق من الآثار الجانبية الضارة بالنفسية المسلمة وبالشخصية الإسلامية عموماً ما لا يخفى على متأمل . وربما واجه المسلم فوضى في الإفتاء نتيجة اختلاف منطلقات المفتين : فهذا الفقيه يحل ، وذاك يحرم ، وثالث يستند إلى أنه يجوز في ” دار الحرب ” ما لا يجوز في ” دار الإسلام ” ، ورابع يقيس الواقع الحاضر على الماضي الغابر قياساً لا يأبه بالفوارق النوعية الهائلة بين مجتمع وآخر ، ولا يلقي بالاً للفوارق ما بين حقبة تاريخية وأخرى ، بل لا يأبه بالقواعد الأصولية القاضية بمنع قياس فرع على فرع ثبت حكمه بالقياس ، فتكون النتيجة المنطقية لهذا المنطلق المنهجي الخاطئ إيقاع المسلمين في البلبلة والاضطراب ، وتحجيم دورهم العالمي المرتقب، والحكم عليهم بالعزلة والاغتراب وإعاقة الحياة الإسلامية عن الانتشار على نطاق واسع وعالمي وفرض التخلف عليها ، وإظهار الإسلام بمظهر العاجز عن مواجهة أسئلة الحضارة والعمران المستنير في زماننا هذا .

والحق أن مشكلات الأقليات المسلمة لا يمكن أن تواجه إلا باجتهاد جديد ، ينطلق من كليات القرآن الكريم وغاياته وقيمه العليا ومقاصد شريعته ومنهاجه القويم.


 

التعليق :

لقد خان الدكتور طه التعبير وسط حماسه لا مبرر لها حتى زل قلمه إذ وصف ” منطق الانطلاق من الضرورات ، وكونها تبيح المحظورات و ” النوازل ” بأنه منطق هش لا يتسع لأمور ذات بال .. وأن لهذا المنطق آثار جانبية ضارة، وأنه قد يؤدى إلى فوضى في الإفتاء … .

إن قاعدة الضرورات لا توصف في هذا الوصف ، ولا توضع هذا الموضع من البحث ، فلا يخفي الباحث الكريم أن قاعدة الضرورات مبنية على نصوص الكتاب كقوله تعالى : ” فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ” وقوله تعالى : ” إلا ما اضطررتم إليه ” وقد ابتنى عليها كثير من الفروع الفقهية ، وهي أداة اجتهادية كثيراً ما يلجأ إليها الفقيه لحل إشكاليات فردية وجماعية ، ولأهميتها ألفت فيها الكتب والأبحاث ، بل أسست عليها نظرية قائمة برأسها ولقد تأملت في الآثار الجانبية الضارة بالنفسية المسلمة وبالشخصية الإسلامية وخفى على ما أدركه الباحث الكريم ، بل الذي أدركته أن الأقليات أحوج إلى فقه الضرورات من غيرهم ، وأن لهم فيه فسحة ليست لغيرهم ، إذ الضرورات محلها الحلال والحرام في الطعام والشراب والمعاملات الاقتصادية وكثير من جزئيات المسائل ، وكليات القضايا المستجدة العامة والخاصة ، ثم ما شأن الضرورات وفقه النوازل بفوضى في الإفتاء ، وأين الإفتاء بالضرورات التي تورث الفوضي ، أنها توقع المسلمين في البلبلة والاضطراب ، وتحجيم دورهم العلمي المرتقب ، وإزاء هذا نرى أنه لا يؤبه لمشكك في قاعدة الضرورات وأثرها في فقه الأقليات خاصة ، ومن قال بذلك فقد عمد إلى منطق هش ، لا يبنى عليه فقه.

وأما أن الحق في أن مشكلات الأقليات المسلمة لا يمكن إلا أن تواجه باجتهاد جديد . فإن الدعوة إلى اجتهاد جديد ، دعوة يعوزها الدليل ومستند ومبرر الحاجة الداعية إلى هذا الاجتهاد الجديد ، وهو لابد أن يكون حينئذ جديداً في نوعه ومبناه.

الذي يدركه القاصي من أهل العلم والداني ، أن الاجتهاد ليس فيه قديم وجديد ، وإنما الاجتهاد منهج لاستنباط الأحكام وفق ضوابط محررة مقررة ، وأن من يقوم به يسمى مجتهداً ، ولا يكون كذلك حتى يملك أدوات الاجتهاد ويكون أهلاً لـه ، فمتى كان من أهله ، واجتهد وفق ضوابطه ، ووقع اجتهاده في محل الاجتهاد ، كان اجتهاداً مقبولاً لا مراء.

ومن فقد شيئاً من ذلك فقوله مردود بلا مراء.

ولقد اجتهد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في عهده وبعد عصره ، واجتهد التابعون ومن تلاهم حتى يومنا هذا ، وقد واجه المسلمون خلال ذلك وقائع ومستجدات لا حصر لها ، وخاصة مع توسع الدولة الإسلامية ، وريادتها لحضارة الدنيا قروناً متطاولة ، فما عجز المجتهدون بذات المنهج عن استيعاب المستجدات واستنباط الأحكام لها ، وما عجز عن إدراك حكمه مجتهد واحد فيسع إدراكه اجتماع المجتهدين ، فإنهم لا يجتمعون على ضلالة ، ولم يقل أحد من المجتهدين الأفذاذ المتبحرين من لدن أرباب المذاهب المتنوعة ومن تلاهم أننا بحاجة إلى اجتهاد جديد ، وقد وسعهم الاختلاف مع الاجتهاد ، اختلاف عصر وظرف وأعراف أو تنقيح وتحقيق وتخريج المناط لا اختلاف منهج أو حجة ودليل ، وما نحن اليوم بشذوذ عن أهل العلم والفضل السابقين ، بل نحن عيال عليهم رضي من رضى أو سخط من استكبر.

وأما ما هو هذا الاجتهاد الجديد والذي يدعو إليه الدكتور طه فأسارع إلى القول بأنه الطامة الكبرى التي لا ترتفع معها هامة ، ولا يقوم معها للفقه بل للدين قائمة ، وما كان كذلك يستحق أن نفرد له تعليقاً خاصاً سآتي على ذكره واستيفائه لاحقاً ولا تأخذك الحماسة للقفز إلى معرفة هذه الطامة ، فإن ما سيأتي قبلها لا يقل خطورة عنها.


 

 

  6 –    ما الذي يمكن استفادته من الفقه الموروث :

يعقد الدكتور طه هذا المبحث للكلام على التراث الفقهي ، فبعد أن يثني قليلاً على هذا الفقه في بداية المقال لا يلبث أن يشن عليه حملة عارمة ، ويدعو إلى تجاوز هذا الفقه بعد أن وصف نوعاً منه بالفقه ” البقري ” وهاك نصوصه واحدة واحدة ، ثم نأتي عليها بالتعليق واحداً واحداً :

يقول : أما الفقه الموروث في مجال التنظير لعلاقة للمسلمين بغيرهم فهو – على تراثة وتنوعه وغناه وتشعبه – قد ارتبط أغلبه بواقع التاريخ الذي انتج فيه ، وصار جزءاً من ذلك الواقع بحيث يتعذر تطبيق جزئياته على أي واقع آخر مغاير لذلك الواقع التاريخي نوعياً ، ولذلك فلابد من اعتباره سوابق فقهية يتم النظر فيها ، واستيعابها والعمل على تجاوزها ، بعد أخذ الدرس منها والبناء على الأصول التي ساعدت فقهاء الأمة في الماضي على إنتاج ما أنتجوا ، وهي كفيلة بمساعدة الفقيه المعاصر على تلبية احتياجات عصره الفقهية باعتبارها سوابق فقهية تثري قدرات الفقيه وتنمي ملكته الفقهية ، وتريه جوانب قد لا تظهر لـه بغير ذلك ، ولكن لا ليأخذ الفتوى حرفيا منه فيقع في خطأ القياس على الثابت بالقياس أو الاجتهاد ، بل ليأخذ تلك الدروس المشار إليها ثم يتجاوزه إلى الأصول ليأخذ من حيث أخذ السابقون …

ثم يقول بعد هذا ، وبعد ذكر أمثلة للاجتهادات التي مبناها تغير الزمان والمكان :

إن النظر في سائر القضايا التي تناولها الصحابة والقضايا الأخرى التي تناولها التابعون يدل دلالة واضحة على إدراك الصدر الأول من أن ما جاءت به شريعة الله لـه مقاصد وحكم وأسباب وعلل ، وأن فقه النصوص وتفسيرها وفهمها وتطبيقها ينبغي أن يدرك في إطار تلك المقاصد والعلل والحكم ، وأن التمسك بالفهم اللغوي المجرد والتفسير الجزئي لا يخرج صاحبه من عهدة التكليف – كما قد يتوهم الكثيرون – إذا لم تتحقق مقاصد التشريع وهدفه وغايته. إن الجمود على الصيغ اللغوية الجزئية وتجاوز المقاصد يؤدي إلى فقه ” بقري ” أو فقه مماثل لفقه أصحاب البقرة الذين قص الله تعالى علينا قصتهم ليحذرنا من الوقوع فيما وقعوا فيه.

فالحاجة لتجاوز الفقه الجزئي الموروث قائمة لأسباب كثيرة ، بعضها يتعلق بالمنهج ، وأخرى بتحقيق المناط.

التعليق :

هذا الكلام يحتمل القبول ولو بتكلف ، وينبغي أن نتجاوز ونترفع عن وصف بعض الفقه بـ ” البقري ” حيث لا يوجد عندنا مجتهد يتجاوز المقاصد ويجمد على الصيغ اللغوية ، لكن المعنى الأهم الذي يعنينا ، وما لا يمكن تجاوزه دون تعليق هو معرفة الأسباب التي قال عنها : ” إن الحاجة لتجاوز الفقه الجزئي الموروث قائمة لأسباب كثيرة ، بعضها تتعلق بالمنهج ، وأخرى بتحقيق المناط ” فالنظر إلى هذه الأسباب بشيء من الروية العلمية.

 

  7 –    الأسباب المنهجية لتجاوز الفقه الجزئي الموروث أهمها :

أولاً : لم يرتب بعض فقهائنا المتقدمين مصادر التشريع الترتيب الدقيق الذي يعين على حسن الاستنباط منها لقضايا العصر ؛ والترتيب المقترح لهذه المصادر يقضي باعتبار القرآن الكريم أصل الأصول ، ومنبع التشريع ، والمصدر التأسيسي المهيمن على كل ما سواه ، والمقدم على كل ما عداه عند التعارض : فهو المصدر المطلق المنشئ والكاشف عن الأحكام ، لا يطرأ عليه نسخ ، ولا يقوم لمعارضته غيره ، وكما يقضي هذا الترتيب اعتبار السنة النبوية مصدراً بيانياً ملزماً يتكامل مع بيان القرآن لنفسه ويفصَّله ويتبعه ويطبقه في الواقع ، لتقديم الأسوة والنموذج.


 

التعليق :

هذا الذي ذكره في السبب الأول هو من الطامة التي وعدنا عقد مبحث أو تعليق خاص يخصها بتفصيل تستحقه ، وسيأتي التعليق على ذلك لاحقاً.

ثانياً : لم يأخذ أكثر فقهائنا عالمية الإسلام بعين الاعتبار ” محدداً منهاجياً ” في تنظيرهم الفقهي لعلاقة المسلمين بغيرهم ، بل عبروا عن نوع من الإنطواء على الذات لا يتناسب مع خصائص الرسالة الخاتمة والأمة المخرجة الشاهدة ، كما حدث نوع من التركيز على المحيط الجغرافي والاجتماعي بدرجة قد توحي إلى البعض بارتباط الإسلام بذلك المحيط الذي بلغه في فترة انتشاره الأولي.

التعليق :

لو صح هذا القول لكان فقاؤنا قد خالفوا في اجتهاداتهم النصوص ، ولكان اجتهادهم باطلاً لمقابلته أو معارضته للنص ، ولقد شاع وذاع أن فقه الإسلام قد سبق الحضارات السابقة واللاحقة ، والقوانين المنظمة قديمها وحديثها ، فأصّل الفقهاء العلاقات الدولية في حالتي السلم والحرب ، بعد أن فرغوا من تحديد العلاقات الدستورية بين الحاكم المسلم ورعيته ، مالـه وما عليه ، وما لهم وما عليهم ، وسطروا في ذلك مدونات نفيسة مؤصلة على نصوص الكتاب والسنة ، واجتهد الفقهاء على ضوئهما ، وهل ينكر فضل فقهاء المسلمين في تنظيم العلاقات الدولية ، بل كيف عمّرت الدولة الإسلامية أرجاء الأرض دون أن يكون لها تحديد فقهي شرعي لطبيعة العلاقة بين دولتهم والعالم الذي فتح على أيديهم . ولم يكن نظر العلاقات الدولية لأكثر الفقهاء أو أقلهم ، فلا يخلو كتاب فقهي من الكلام على علاقة المسلمين بغيرهم بصفتهم أفراداً أو دولة غاية ما هنالك أن بعض الفقهاء توسعوا في هذا الشأن حتى ألفوا كتباً خاصة بالعلاقات الدولية ، وإن لم تسم بهذا الاسم ، وهل ينكر عالم فضل كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني ، وهو يمثل سبق فقهاء المسلمين في تقنين فقه العلاقات الدولية ، فالكتاب يدور موضوعه حول جميع الأمور المتعلقة بالحرب وعلاقتها بالمشركين وأحكامها . فهو في الحقيقة القانون الدولي للمسلمين في أمور الحرب .

وعلى هذا تكلم محمد بن الحسن عن أهل الإسلام وأهل الحرب المشركين، وبيّن أحكام الأسارى من الفريقين ، سواء أكانوا رجالاً أم نساءً أم أطفالاً ، وإسلام المشركين ، والأمان على اختلاف ضروبه وألفاظه ، والمستأمنين ، والرسل الذين يفدون إلى دار الإسلام من دار الحرب ، والحصانات التي يتمتعون بها، والغنائم ، والصلح والتحكيم ، والفداء ، وأحكام السلاح والرقيق والكراع ، والأراضي التي يستولي عليها أهل الحرب ، في الحرب ، وأهل الإسلام في دار الحرب ، ونقض المعاهدات ، وجرائم الحرب ، هذا إلى مئات المسائل المتعلقة بأهل الحرب وصلاتهم بالمسلمين في أيام الحرب والسلم معاً .

وقد اعتمد الشيباني في ذلك كله على القرآن ، أو الأحاديث التي قيلت في مغازي الرسول r على إثر حوادث معينة وقعت ، وعلى الأحكام التي وقعت أثناء حروب المسلمين وفتوحهم ، كما أعمل القياس في أحايين كثيرة ، وجعل لذلك كله أحكاماً جيدة .

ومن هنا يبدو شأن هذا الكتاب في ناحية القانون الدولي الإسلامي . وقد أعجب به الرشيد عندما اطلع عليه ، وعدّه من مفاخر أيامه . وأرسل ابنيه يستمعانه على مؤلفه . وزاد الاهتمام به في أيام الدولة العثمانية فترجم إلى اللغة التركية في أيام السلطان محمود خان ، واتخذ أساساً لأحكام المجاهدين العثمانيين في حروبهم مع الدول الأوروبية .

كما عنى به الكثيرون فشرحوه ، وأهم شرح لـه هو شرح السرخسي والجمال الحصري ( – 636 هـ ) .

وقد كان الشيباني ، بتأليفه في أمور تتعلق بالقانون الدولي ، أسبق من غروسيوس الهولندي Grotius (1583 – 1645 م ) الذي عاش في القرن السابع عشر وسمي أبو القانون الدولي ؛ لأنه بحث في بعض الأمور الخاصة بالقانون الدولي . وسبق من سبق غروسيوس أو عاصروه مثل Vasquez و Suarez و Vitoria من فقهاء النصارى .

وقد تنبه في السنوات الأخيرة لشأن الشيباني من هذه الناحية المشتغلون بالقانون الدولي ، فأسست في غوتنجن بألمانيا جمعية الشيباني للحقوق الدولية وضمت علماء القانـون الدولي والمشتغلين به في مختلف بلاد العالم ([ii]) .

وهل يصح بعد هذا كله أن يقال : إن فقهاءنا أو أكثرهم لم يأخذوا عالمية الإسـلام بعين الاعتبار محدداً منهجياً في تنظيرهم الفقهي لعلاقة المسـلمين بغيرهم .


 

 

 8 –  ثالثاً : تأثر الفقهاء بالعرف التاريخي الواقعي السائد في عصورهم حول التقسيم الدولي للعالم ، فزاد في تركيز نظرتهم للموضوع ، وابتعدوا عن المفهوم القرآني للجغرافيا ، فأخذ الفقه الموروث – في غالبه – صفة المحلية.

هذه دعاوى لم يقم عليها صاحبها الدليل كيما تستقيم في ميزان الفكر والنظر . فالفقهاء ليسوا فلاسفة ، ولا مؤرخين ، ولا جغرافيين ، إنما هم شراح للنصوص ومجتهدون في الاستنباط منها ، وتقعيد القواعد على أساسها ، ومنافحين عن حياض الإسلام والشريعة ينفون عنها تحريفات الغالين ، وتأويلات الجاهلين ، وانتحالات المبطلين . لا تحدهم أرض ولا جنس ولا جغرافيا ، وما كان من ثراء فقهي ضخم في بلاد المسلمين فمرده إلى طبيعة الحال والشأن ، فالمسلمون معنيون بمعرفة أحكام دينهم الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح ، والفقهاء معنيون ومسئولون عن البيان والاستنباط والاجتهاد ، ومع ذلك لم يغفلوا بيان الأحكام فيما وراء ذلك سواء في بيان العلاقات بين المسلمين وغيرهم داخل البلاد الإسلامية ، أو بينهم وغيرهم خارج البلاد الإسلامية ، وفي حالتي الحرب والسلم، وما قصروا ، وما كان نظرهم ضيقاً ومحلياً ، وما هم عن مفهوم القرآن للجغرافيا بغافلين أو مجتهدين خارجه أو في مقابله .


 

 

 9 –  رابعاً : لم تبرز القيم العليا الحاكمة ومقاصد الشريعة بقدر كاف ومناسب مما كرّس الصفة الجزئية للفقه ، وأعطاها الطباع الشخصاني إلى حد كبير ، أو كما قـال الإمام الغزالي : ” … إنه من العلوم الجزئية … ” .

 

التعليق :

هذه رابعة المطاعن المنهجية التي توجه إلى فقهنا وفقهائنا ؛ لأنه لا انفصام بين الاثنين البتة ، وقد صاغ الدكتور هذا الخلل المنهجي الرابع بعبارات فضفاضة طيارة ، لا تمسك لها طرفاً علمياً منهجياً ، لم أفهم – ولا أظن غيري إلا كذلك – ما هي القيم العليا الحاكمة ، وكيف تكون حاكمة ، وما ماهيتها ، ما هي النصوص التي تنص عليها ، وتدعو إلى إقامتها وإبرازها حتى تكون قيماً عليا حاكمة ، وما شأن إقحام المقاصد الشرعية وعطفها على المنهجية أو القيم العليا الحاكمة التي لم تبرز بقدر كاف ، وما هو القدر غير الكافي الذي برز ، بل كيف كرّس ذلك الصفة الجزئية للفقه ، وأعطاها الطابع الموصوف بالشخصاني ، وإلى حد كبير . وما شأن قول الإمام الغزالي يقحم مؤيداً لحياد الفقهاء عن المنهجية ، وهل يلزمه القول بذلك إن قال : ” إن الفقه من العلوم الجزئية ” ولم يقل إلا صواباً ، فالفقه علم بالأحكام الشرعية العملية – الجزئية – مستنبطة من أدلتها التفصيلية . فما هكذا تقام الدعاوى الكبار واللمز والطعن على فقهنا وفقهائنا ، ولا تقبل العمومات في ميدان النظر في القضايا المحددة ، فما لا يبنى على دليل لا يسمع لقائله مقال .

تلك هي الأسباب المنهجية التي تدعونا إلى إهالة التراب دفناً للفقه الجزئي الموروث . فالنظر الآن إلى الأسباب السبعة التي يفترض أن تكون خللاً في عملية الاجتهاد ذاتها مما يدعونا إلى التأكيد بضرورة تجاوز هذا الفقه الذي ليست لـه منهجية منضبطة ، ولا أدوات اجتهادية سليمة .

10 –  الأسباب ذات الصلة بتحقيق المناط وأهمها :

التعليق :

نبدأ هذه المرة بالعنوان القائل : الأسباب ذات الصلة بتحقيق المناط ، وقد ساق الدكتور طه سبع مسائل حاولت أن أدخلها تحت تحقيق المناط فما اسطعت، ولا أظن أصولياً مثل الدكتور طه يقصد بهذا المصطلح غير المراد منه ، ولا أجد مناصاً من أن أتهم نفسي بعدم القدرة على تطبيق مفهوم تحقيق المناط على واحدة من تلك المسائل ، فأسوق معنى هذا المصطلح لعل المتخصص أو القارئ الفاحص يهتدي إلى المراد . وأتبعه ببيان تنقيح المناط وتخريج المناط لعل المراد أحدهما .

المناط هو ما علق الشارع الحكم به أي العلة ، وتحقيق المناط كما بينه الإسنوي وغيره التحقق من وجود علة الأصل في الفرع ، وذلك بإقامة الدليل على ذلك . فإذا اتفق المجتهدون على أن الإسكار علة التحريم ، ثم اختلفوا في شراب معين أهو مسكر أم لا ، فأقام بعضهم الدليل على أنه مسكر فتدليله هذا يقال لـه تحقيق المناط ، وكذلك إذا اتفق الخصمان على أن علة القطع في السرقة هي أخذ المال خفية من حرز مثله ، ثم اختلفا في وجود هذه العلة في النباش ، وهو من ينبش القبور ويأخذ أكفان الموتى منها ، والطرار، وهو من يأخذ المال خفية من الجيب مثلاً ، فإن إقامة الدليل على وجود هذه العلة في كل منهما ، حتى يأخذ حكم السارق ، سمي تحقيق المناط .

أما تخريج المناط فهو استنباط العلة التي لم يدل عليها نص ولا إجماع بطريق من طرق الاجتهاد ، كالمناسبة أو السبر والتقسيم ، أو بعبارة أخرى هو استخراج العلة غير المنصوصة بطريق من طرق للاجتهاد حتى يتأتى القياس ، إذ أساس القياس وشرطه أن يكون الأصل معللاً ، وأن تعين هذه العلة حتى يمكن البحث مما إذا كانت متحققة في الفرع أم لا . ومثالـه أن يستخرج المجتهد علة الربا في الأصناف الستة التي ورد بها النص ، دون أن يدل على علتها ، ويترجح عنده أنها الطعم مثلاً بطريق المناسبة أو السبر والتقسيم أو غيرهما من طريق الاجتهاد .

وتنقيح المناط هو تنقيح العلة معناه تنقيتها وتخليصها من الأوصاف المختلطة بها والتي ليست داخلة في العلية ، ومثالـه قول الأعرابي : ” واقعت أهلي في رمضان ” ، وقول النبي r  لـه : ” أعتق ربة ” فهنا نجد أن الشارع قد أناط الحكم وعلقه بوقاع الأعرابي أهله في رمضان ،ويريد المجتهد أن ينقح هذا المناط ، أي يخلص العلة مما علق بها من الأوصاف التي لا مدخل لها في العلية ، فيقول : لا مدخل لكون المواقع أعرابياً ؛ لأنه لا خلاف في أن غير الأعرابي تجب عليه الكفارة بالوقاع إذ الأحكام الشرعية عامة التطبيق . ثم يقول : ولا مدخل أيضاً لكون الذي واقعها زوجته ، فوقاع غير الزوجة يوجب الكفارة اتفاقاً من باب أولى ، ثم يقول : وأما كون الوقاع في رمضان فله دخل في العلية ، فيبقى ، فالوقاع في غير رمضان لا كفارة فيه ، ثم يقول : وكون الوقاع في نهار رمضان لـه دخل في العلية أيضاً ، فلو جامع في ليل رمضان لما وجبت عليه الكفارة

وظاهر لي أن ليس شيء مما ستقرأ من المسائل السبع داخل في تحقيق المناط ، وعمدت أن أسبق المسائل السبع بتعريف تحقيق المناط وتخريجه وتنقيحه حتى يتسنى لكم الحكم بعد ذلك ، وهاك إياها واحدة واحدة .

 

11- أولا : لم يعتد المسلمون في تاريخهم – بعد عصر الرسالة – على اللجوء إلى بلاد غير إسلامية طلبا لحق مهدر أو هربا من ظلم مفروض بل كانت بلاد الإسلام في الغالب أرض عز ومنعة ، ولم تكن تفصل بينها حدود سياسية مانعة ، فإذا ضاقت بمسلم أرض ، أو انسدت عليه سبيل ، تحول إلى ناحية أخرى من البلاد الإسلامية الفسيحة ، دون أن يحس بغربة ، أو تعتريه مذلة ، أو تتغير عليه أحكام أو نظم .

التعليق :

هذا المذكور أولا ، هو من سمات وصفات الكمال ، وعز الإسلام والمسلمين وهل ينبني على ذلك أن الفقه الإسلامي لم يعرف حكم المسلم لو اغترب إلى بلاد غير إسلامية ، أو أرض لا منعة للإسلام فيها ، وهل نفهم من هذا أن تغير ظروف المسلم من حيث المكان سيجعل الفقيه في حيص بيص ، إن حال العز والمنعة التي يتحدث عنها الدكتور تمثل مرحلة من مراحل الدولة الإسلامية ، تبعتها مراحل مد وجزر في عز الإسلام والمسلمين ، ومن المراحل المتأخرة ما اضطر معه بعض المسلمين إلى الهجرة إلى بلاد غير المسلمين وكثر ذلك في سني الظلم والجبروت بعد رحيل الاستعمار – بخاصة . وما نشأت معضلة مع تقلب الأحوال والأزمنة وقف الفقه والفقهاء إزاءها عاجزين .

 

12 – ثانيا : لم تكن فكرة المواطنة كما نفهمها اليوم موجودة في العالم الذي عاش فقهاؤنا الأقدمون بل كان هناك نوع من الانتماء الثقافي لحضارة معينة ، أو الانتماء السياسي إلى إمبراطورية معينة يعتمد المعيار العقائدي في الغالب أو العرفي ، ويتعامل مع المخالفين في المعتمد بشيء من التحفظ ، مع اختلاف في درجة التسامح من محاكم التفتيش الإسبانية إلى الذمة الإسلامية .

ثالثا : لم تكن الإقامة في بلد غير البلد الأصلي تكسب المقيم حق المواطنة بناء على معايير ثابتة ، مثل الميلاد في بلاد المضيف ، أو أمد الإقامة ، أو الزواج .. بل كان الوافد يتحول تلقائيا إلى مواطن إذا كان يشارك أهل البلـد معتقدهم وثقافتهم ، أو يظل غريبا – مهما استقر به المقام – إذا كان مخالفا لهم في ذلك .

 


 

التعليق :

المواطنة حالة انتماء فطري وطبيعي في كل عصر وآن ، وكل إنسان عاش حياته في أرض ولو لم تكن أرض آبائه وأجداده يحصل لـه انتماء وحب وتعلق بها وبترابها كما قال حبيب الطائي :

 بلاد بها ينطق على تمائمي      وأول أرض مس جسمي ترابها

 والنبي r يعبر عن حبه لأرضه فيقول وهو يترك مكة : ” والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ” وفي رواية قال : ” ما أطيبك من بلد ، وأحبك إلي ، ولو أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك ” وحين كان بلال يحن إلى مكة قائلا :

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة       بـواد وحـولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما ميـاه مجنة       وهل يبدون  لي شامة وطفيل

قالت عائشة : فجئت رسول الله r فأخبرته ، فقال : ” اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة ، وأشد ، وصححها ، وبارك في صاعها ومدها ” ولكن ما عيب الفقه الإسلامي في هذا ، وما شأن المواطنة بخصوصها في تغيير الأحكام وتنظيم الإقامة في الدول اليوم وتحديد حقوق والتزامات المواطنين والمقيمين نظمه الإسلام من قبل ولا يمنع منه ، وهل هي مستجد لا قدرة للفقه على التعامل معه ، لقد قرر الفقهاء أن الأحكام تتغير بتغير الأزمنة والظروف والأمكنة ، وهذا يكفي لشمول المواطنة ، سواء أكان المواطن مسلما أو غير مسلم في بلاد الإسلام أو بلاد غير الإسلام .

فلا يبعد القول بأن المشكلة سياسية واجتماعية أكثر منها فقهية ، وهل يستحق هذا أن يكون سببا في تجاوز الفقه أو التراث الجزئي على حد تعبير الدكتور طه .


 

 

13 – رابعا : لم يكن العالم القديم يعرف شيئا اسمه القانون الدولي أو العلاقات الدبلوماسية ، اللذين يحتمان على كل دولة حماية رعايا الدول الأخرى المقيمين على أرضها ، ومعاملتهم بنفس معاملة الرعايا الأصليين، إلا في بعض الأمور الخاصة التي تقتضي حقوق المواطنة التميز فيها .

التعليق :

لقد عرف العالم القديم – على الأقل الإسلام – وفقهاؤه عرفوا القانون الدولي – كما سبق التنويه – والعلاقات الدبلوماسية ، ولم يكن الفقه الإسلامي بحاجة إلى من يعلمه أحكام القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية ، حتى يحمي رعايا الدول الأخرى من غير المسلمين ، لقد فصل الفقه الإسلامي أحكام غير المسلمين في البلاد الإسلامية سواء كانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم ، ونظم أحكام إقامتهم في البلاد الإسلامية ، وحدد ما لهم من حقوق على الدولة وما عليهم من التزامات، ونظم علاقتهم بالسلطة والأفراد ، وسعد غير المسلمين في ظل عدل الدولة الإسلامية بما لم يسعدوا بمثله في ظل حكوماتهم الظالمة الجائرة . واكتسبوا من المميزات والمكانة والاحترام ما لم يعرفوه من غير الإسلام الذي منحهم حق المواطنة بالإقامة الدائمة دون أن يجبرهم على ترك معتقدهم أو مذهبهم .

14 – خامسا : كان منطق القوة هو الغالب على العلاقة بين الإمبراطوريات القديمة – بما فيها الدولة الإسلامية – فكانت كل منها تعتبر أرض الأخرى ” دار حرب ” يجوز غزوها وضمها كليا أو جزئيا إلى الدولة الغالبة ، إذ من طبيعة الإمبراطوريات أنها لا تعرف حدودا إلا حيث تتعسر على جيوشها مواصلة الزحف .


 

التعليق :

إن مساواة الدولة الإسلامية في كل عصورها بإطلاق مع الامبراطوريات القديمة القائمة أصولها على الظلم والجبروت والقوة هضم وظلم للإسلام والمسلمين وإن المغالين من المستشرقين يترددون في هذا الإطلاق ، لأنهم يدركون أنهم يظلمون التاريخ الناصح للحضارة والدولة الإسلامية . والمسلمون يفتخرون أن فتوح البلدان لم يكن من أجل رقعة أرض ، أو نهب خيرات ، ولو كان كذلك لما وجدنا للإسلام وجودا في شتى بقاع الأرض ، رغم ضعف دولته أو انهيارها .ويكفي الإسلام فخرا أن التاريخ يخصه من بين الإمبراطوريات البائدة ، بأن أعداءه بالأمس يعتنقون عقيدته ومبادئه ، ثم يحملون رايته دعاة فاتحين وهذا ما لا ينكره منصف نظر في تاريخ فتوح الإسلام .

 

15 – سادسا : لم يعش فقهاؤنا الوحدة الأرضية التي نعيشها اليوم ، حيث تتداخل الثقافات ، وتعيش الأمم في عالم يكاد يكون واحدا . ولكنهم عاشوا في جزر منفصلة ، لا تعايش بينها و لا تفاهم فكان ” فقه الحرب ” طاغيا بحكم مقتضيات الواقع يوم ذاك . وما نحتاجه اليوم هو بناء ” فقه التعايش ” بين الأمم في واقع مختلف كما ونوعا .

التعليق :

بل عاش فقهاؤنا الوحدة الأرضية حيث تداخلت الثقافات ، الثقافة الإسلامية والرومية والفارسية وغيرها من الثقافات التي دخل الإسلام أرضها . فعايش أهله أهلها ، وثقافته ثقافتها ، وكان أول من يتوطن في البلاد المفتوحة الفقهاء ليقوموا بواجب القضاء والفتيا ونشر الدعوة ، وكانوا بذلك يوطنون فقه التعايش ، ولا ينكر بعيد أو قريب ، حبيب أو عدو أن ليس كالإسلام دين يقبل الآخر بعاداته وتقاليده وأيا كانت ديانته أو نحلته ، يعايشه حتى يكون مسلما ، أو يظل إنسانا محترما له حقوقه وعليه التزاماته .

16 – سابعا : كان بعض الفقهاء الأقدمين والمتأخرين يعبرون بفتواهم عن نوع من المقاومة وردة الفعل على واقع مخصوص يختلف عن واقعنا ، وفي هذا الإطار يمكن أن ندرج كتاب ابن تيمية ” اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم ” . وكذلك كتاب ” الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب ” ، وكتاب ” النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار ” ، وفتاوى علماء الجزائر في صدر هذا القرن بتحريم حمل الجنسية الفرنسية فهذه الكتب والفتاوى جزء من ثقافة الصـراع التي لا تحتـاج الأقليات الإسلاميـة – اليوم – أن تجعل منها جزءا من ثقافتها الحالية ، ولكل منها ظروفه ومسوغاته .

التعليق :

هذا من محاسن الفقه ومكانة الفقهاء ، فلا يسعهم السكوت على ظلم الحكام و لا يمنعهم ذلك من إظهار أحكام الشرع ولو أغضبت الحاكم ومن حوله من أهل السلطان ، وهذا واجب فقهاء الأمة الذي أخذه عليهم ألا يكتموا علما وجب إظهاره وإشهاره ) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ( ، ومن هنا كان بيان الصراط المستقيم ، وحرمة الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار ” ولكل فتوى زمانها وظرفها ولولا جلاء المفاسد والخلل الذي بدا من تغلغل غير المسلمين في تسيير مصالح المسلمين أو هجرة المسلمين لتقوية أعدائهم في ظرف حرب مع تلك الديار كفرنسا لما كان لهذه الفتاوى أن تعلن ، وتكلف أصحابها أنفسهم إن من حق فقهائنا علينا أن نقدرهم ومن حقنا أن تعتز بهذا الفقه ، وأما أن هذه الفتاوى كانت جزءًا من ثقافة الصراع ، فهذا صحيح وهذه فتاوى كان لها ظرفها ، وكانت صائبة بالنسبة لزمنهم وظرفهم وهذا لا يعني أن نستصحب هذه الفتاوى على واقع الأقليات في أوربا اليوم وما أحد قال بذلك فتلك فتاوى كانت سليمة صالحة لزمانهم وظرفهم ، و لا يلزمنا أحد بتبنيها اليوم . لكنه تراث لـه احترامه وتقديره ولأهله مكانتهم وتقديرهم وإجلالهم ولنا أن نتجاوز هذا التراث لكن مع تقدير واحترام لا لمز وغمز .

 

17- نحو بناء أصول فقه الأقليات :

هذا المبحث من أهم أو أخطر ما تضمنه هذا البحث وهو في صلب موضوع البحث ، وجزء من عنوانه فإن عنوانه ” مدخل إلى أصول وفقه الأقليات ” ولقد سبق أن قلنا إن المراد من كلمة ” أصول ” القواعد والمبادئ التي يقوم عليها ” فقه الأقليات ” و لا يصح أن يراد من ” أصول الفقه ” المصطلح الأصولي.

 ويبدأ بتقديم وتمهيد لهذه الأصول فيقول : حين نقدم بعض القواعد الأصولية ، والقواعد الفقهية المساعدة في هذا البحث – فإننا نقدمها – عونا ومساعدة لإخواننا الذين يتصدون للفتوى في شئون هذه الأقليات من غير أن ندعي أن هذه أصول شاملة أو نهائية لهذا النوع من الفقه ، لكنها جهد واجتهاد من مقل ، وبدايات نرجوه سبحانه وتعالـى أن يجعلها صالحة نافعة مفيدة ، وأن لا يحرمنا أجرها . إنه سميع مجيب .

ولقد سررت كثيرا لعبارات ناصعة سطرها الدكتور طه حين قال : إن أصول ” فقه الأقليات ” لا تتجاهل أدلة الفقه ، و لا شروط  الاستنباط منها ، كما لا تتجاوز شروط الاجتهاد ، ولا أركان العملية الاجتهادية ، فذلك أمر نستعصم بالله تعالى أن نقع في مثله ، لكننا نريد تشغيل آلية الاجتهاد بالشكل الملائم لعصرنا وما تفجر فيه مـن معارف وعلوم ووسائل وأدوات ، لتستظل الحياة بظل الشريعة الوارفة الظلال ، إن شاء الله تعالى .

ولكن سرعان ما تبدد السرور وحل الكدر والأسى حين بدأ في بيان الأطر أو المحددات المنهجية لأصول فقه الجديد بقولـه بما عملنا واقترحنا على أهل العلم جملة من المحددات المنهجية أو ” الأصول ” التي نرى ضرورة ملاحظتها من قبل المفتي في فقه الأقليات ، باعتبار خصوصية هـذا الفقه ، وباعتبار أن كل ” فقه ” يحتاج إلى أصول إلى أن تتكامل قواعد أصول ” فقه الأقليات ” على أيدينا أو أيدي سوانا ومن يأتي من بعدنا .

ثم يقول : ولنتمكن من بناء أصول الاجتهاد المطلوب نحتاج إلى استحضار بعض القواعد الهامة وملاحظتها ، وتجريب فاعليتها في ” دائرة فقه الأقليات ” ، فإن وجد المختصون فيها منطلقات مساعدة على إنماء وحفز الطاقات الاجتهادية في فقه الأقليات جرى اختبارها في ميادين أخرى ، وإلا فحسبنا الحصول على أجر واحد ، ولعله سبحانه يوفق سوانا للفوز بالحسنيين ، والحصول على الأجرين.

ولنبدأ مع الدكتور في هذه الأصول الفقهية واحداً واحداً وهذا أولها :

أولا : الأصل في ” فقهنا للدين ، وفقهنا للتدين ” أن يقوما على قراءة كتابين ، وتؤسس على تقابلهما وتكاملهما مناهجنا في البحث والاكتشاف ، وهما الوحي المقروء ، والكون المتحرك الذي يتضمن ظواهر الوجود كافة ، فالقرآن يهدي إلى الكون ، والكون يدل ويرشد إلى القرآن كذلك .

وهذا ما دعوناه ” بالجمع بين القراءتين ” قراءة تستصحب الوحي في قراءة الكون وفهمه واكتشاف سننه ، وقراءة تستصحب سنن الكون في فهم آيات الوحي ، وغاية قراءة الوحي التنزل من الكلي إلى الجزئي والربط بين المطلق والنسبي بقدر ما تتيحه قدرات القارئ في الحالتين هو الإنسان المستخلف تبعا لإيمانه بالوحي وفهمه لـه من ناحية ، وفهمه لظواهر الوجود الكوني وسننه وقوانين حركته من ناحية أخرى ، فهو القارئ لهما . ومن ذلك ما ورد عن الإمام علي بن أبـي طالب – كرم الله وجهه – أنه قال عندما رفع الخوارج شعار ( لا حكم إلا لله ) ، ” هذا القرآن إنما هو خط  مسطور بين دفتين، لا ينطق ، إنما يتكلم به الرجال ” ، وهي إشارة منه – عليه السلام – إلى قضية معرفية خطيرة ، وهي أن عقول الناس وثقافتهم وخبراتهم ومعارفهم وتجاربهم هي التي تصوغ معاني النصوص في تفسيراتهم أو تحدد دلالاتها في مناهجهم إذا لم يكن منهج ، والمنهج في هذا المحدد هو – الجمع بين القراءتين – وهذا الجمع لا يتضح تماما إلا بالكشف عن البعد الغيبي في حركة الواقع ، بحيث تتحول المعرفة الغيبية الواردة في القرآن المجيد إلى قوانين تدرس ويجري تداولها في المجتمع العلمي بشكل موضوعي ، وذلك بعد أن يتميز ما هو غيب بالنسبة لنا ولنسبيتنا ومحدودية بشريتنا ، وهو غيب يكشف عنه الزمن ، وبين ما هو غيب مطلق يختص به سبحانه وحده وهنا سوف نتمكن من استخلاص محددات منهاجية من القرآن المجيد صالحة للاطراد والانعكاس كمبدأ ” اللامصادفة واللاعبثية ” ، ومبدأ السننية ، وحاكمية الكتاب التي تجعل من السنة النبوية تطبيقا يهيمن على حركته الكتاب ، فلا يمكن أن يكون هناك تعارض بينهما و لا تناسخ و لا خروج عن منهج الكتاب و لا زيادة عليه ، إذ أن الزيادة على النص نسخ ” .

التعليق :

لقد حاولت فهم هذا الأصل ، وأعدت قراءته مرات فما استبان لي مراده ، وكيف يمكن أن يكون أصلا يعمل به ويلاحظه المفتي لفقه الأقليات . وربما كان هذا الغموض مدرك لدى الدكتور طه فأراد شيئا من التوضيح وما وفق فيه – في تقديري – أنظر قوله هذا : ” وحين نقوم بعملية ” الجمع بين القراءتين ” نجد أن أعلى مراتب القيم التي دل الكتابان المسطور والمخلوق عليها ثلاث هي : التوحيد ، التزكيـة ، والعمران ، فالتوحيد لله تعالى ، فهو الخالق البارئ المصور الحي القيوم ذو الجلال والإكرام . والتزكية للإنسان المستخلف الذي أنيطت به مهام الخلافة والأمانة والابتلاء والعمران ، ولا يتحقق شيء من ذلك بدون التزكية والعمران للكون المسخر ليكون ميدان الخلافة ومجال الابتلاء ووعاء العمران .

وهذه القيم – في حقيقتها – مقاصد وقيم حاكمة ، ففيها تبرز مقاصد الحق من الخلق الذي نفى عن نفسه العبث ، ونفى عن خلق الإنسان السدى ، ونهى عن الفساد في الأرض ..” وهكذا يمضي التوهان والغموض لأصل هو أداة من أدوات الاجتهاد وتحت يد مفتي في فقه الأقليات .

وإن كنت لم أفهم المراد من كلام الدكتور طه وربط أوله بآخره واستخلاص نتيجة ما ، إلا أن الأمانة تقتضي الاعتراف بأن الكلمات الأربع الأخيرة مما لا يسعني عدم فهمها فهي من القضايا الأصولية ، أقصد عبارته آخر الفقرة : الزيادة على النص نسخ .

إلا أن العبارة وإن كانت محشورة ، فقد كان على الدكتور طه أن يوضح معنى هذه العبارة خاصة وأن مفتى الأقليات في حاجة إلى معرفتها . كان المقام يقتضي البيـان ، فليست الزيادة على النص نسخا مطلقا بل الزيادة على النص بما يخرج بعض أفراد عامه ، فإما أن تكون الزيادة متصلة به أو منفصلة ، فإن كانت متصلة به كانت تخصيصا بالاتفاق . وإن تأخرت وانفصلت عنه ، فقد وقع الخلاف بين الحنفية وغيرهم ، فذهب الحنفية إلى أن الزيادة تكون نسخا لحكم الفرد الذي دلت على حكمه ، وذهب غيرهم إلى أنها تكون تخصيصا للعام . والحنفية يرون أن الزيادة إذا كانت متواترة تكون ناسخة لحكم بعض أفراد النص . وخبر الآحاد لا ينسخ الكتاب والسنة المتواترة و لا يخصصها لأنه منفصل وغير الحنفية يقولون إن الزيادة إذا وردت بخبر الواحد فإنها تخصص النص . وعلى كل حال سواء كانت الزيادة على النص نسخا أو تخصيصا لا تخرج عن كونها بيانا للكتاب ، أو مستقلة أفادت حكما سكت عنه ، و لا يصح أن يقال : أنها أفادت حكما مخالفا لما فيه على أي مذهب كان . والمسألة فيها تفصيل ومذاهب عدها الشوكاني سبعة  ، ومنه يتبين أن المرور على هذه العبارات دون بيان غير سليم علمياً في موضع تأصيل فقه الأقليات .

وليت الدكتور طه وقف عند هذا الحد الغامض لكنه استدار على ثمرة علم أصول الفقه كله ، وموضوع الفقه بأسره ، فنسفه في اليم نسفاً بما فيه من جهود الفقهاء والأصوليين من عهد النبي r إلى يومنا هذا ، وبما في أسفار أمهات كتب الفقه وصغارها إنه ينسف الأحكام الشرعية المتفق عليها وينسبها إلى الاقتباس من مصطلحات الفلسفة والمنطق ، فانظر ما يقول بترو ودقة مع محاولة حسن لظن الذي ينبغي ألا نغادره لمكانة الدكتور ومنزلته في نفوسنا ، يقول :

” … ولكن بعد أن وصل الأمر للفقهاء السابرين – هكذا في النسخة وهي أفضل من الغابرين – الذين عنوا بالمصطلحات وبالتفريق بين الأدلة في قضايا القطع والظن ، واستفادوا من ترجمة المنطق والفلسفة في بناء المصطلحات المقتبسة من الفلسفة والمنطق ليقال : ” هذا واجب أو فرض ، ومندوب وأو مستحب ، وحرام أو محظور ، أو خلاف الأولى ومباح أو طلق – لا أدري ما المقصود بطلق – لتربط هذه المصطلحات بمعاني الثواب والعقاب أو المدح والذم ونحوها ولتقوم على القطعية أو الظنية في الدليل ، – ثم يزيد الطين بلة فيقول : – ومن هنا حدثت ثغرة في الفقه وأصوله ، وغابت المقاصد أو انزوت لتظهر حين تظهر على يد الشاطبي ، ولتنحصر بمقاصد المكلفين – عنده – حتى بدت وكأنها مفرعة عن ” المصالح ” وهي ليست كذلك .

والدكتور طه يريد من وراء ذلك أن يجعل مفتي الأقليات لا يعدو حكمه أن يقول : افعل أو لا تفعل ، وهذا صريح في قولـه بعد تلك العبارات مباشرة :

ومن هنا رأينا ضرورة ” العودة إلى الأمر الأول ” والانطلاق من المقاصد العليا والقيم الحاكمة لتقييم الفعل الإنساني ، ثم إعطاءه الوصف الملائم لـه من كونه ” ينبغي أن يفعل ” أو ” لا يفعل ” ونحو ذلك – كما كان كبار الأئمة يعبرون – قبل شيوع النظر إلى القضايا المنطقية ، والمصطلحات الفلسفية التي كان المتقدمون ينظرون إليها نظرة ثانوية ، فإن الخطر في إهمال أو تجاوز بعضها أقل بكثير من تجاوز المقاصد القرآنية العليا والقيم الحاكمة أو تجاوز بعضها أقل بكثير من تجاوز المقاصد القرآنية العليا والقيم الحاكمة التي كرست آياته لإرساء دعائمها .


 

وبهذا ينتتهي هذا الأصل الذي لا يمكن فهمه جملة ، كما لا يمكن التسليم بالقدر المفهوم منه ، كما لا يقبل من فقيه القول بأن الأحكام الشرعية محصورة في ” ينبغي أن يفعل ” أو ” لا يفعل ” . وهذا ما لا يقبله لا فقه أقليات ولا أكثريات ، ولننظر للأصول اللاحقة ففيها ما هو أدهى – للأسف – وأَمَرْ .

 

18 – ثانياً : في المستوى الثاني ينبغي النظر في مستويات المقاصد العائدة إلى المكلفين من ” الضروريات ” – و ” الحاجيات ” – و ” التحسينات ” . لتربط بالمقاصد العليا الثلاث : التوحيد والتزكية والعمران . وهنا سيفتح الباب واسعاً أمام الفقهاء القادرين على إدراج كل ما يستجد تحت هذه المستويات ، كما فعل الشيخ ابن عاشور حين أدرج ” الحرية ” ضمن المقاصد ، وكذلك الشيخ الغزالي حين أدرج ” المساواة وحقوق الإنسان ” في المقاصد . ويمكن أن نجد أموراً يجب أن نغير وضعها في سلم ضرورات الأمة وأولوياتها فيجري تعديل موقعها وفقاً لذلك

التعليق :

هذا الأصل الثاني يحتمل تكلف فهمه وتمريره ، وإن كنت شخصياً لم أفهم، ولم استوعب كيف تربط الضروريات والحاجيات والتحسينات بالمقاصد العليا الثلاث : التوحيد والتزكية والعمران ، ولا أستوعب إطلاقاً كيف أن ذلك سيفتح الباب واسعاً أمام الفقهاء القادرين على إدراج كل ما يستجد تحت هذه المستويات الثلاث . ولا أدري كيف يخرج كلام الشيخ ابن عاشور والشيخ الإمام الغزالي على هذه المستويات ومقاصد التوحيد والتزكية والعمران . ولا أريد أن أتحدى من يفهم ذلك فإن مدارك أهل النظر تختلف .

ولننتقل بعد هذا إلى الأصل الثالث وهو أخطر الأصول ؛ لأنه يهدم أصلاً من أصول الدين والاستنباط ، وهذا الموضوع المنوه عنه سابقاً بالطامة في هذا البحث . ومن أصيب بقشعريرة أو كدر وهَمّ عند قراءة ما سيأتي فليس هو مني ببعيد ، ولكني حين قرأت ذلك وشعرت بما ذكرت دعوة لأخي الدكتور طه أن يغفر الله لـه ذلك ، وأن يرجع عنه ، وأضمرت في نفسي أن لا ينشر هذا البحث وفيه هذه الهِنَة ، وإن نشر فلا يحل لنا تركه دون نشر البيان والرد حتى لا يغتر به عامي أو طالب علم ، أو يتلقفه صاحب غرض لا يريد إلا الشر . وهاك بعد هذا التشويق والتخويف والتحذير كلام الدكتور بتمامه غير منقوص ، يقول :

ثالثاً : شرّك الأصوليون بين الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة بما سموه ” بالمباحث المشتركة بين الكتاب والسنة ” ، وسووا بين لغتيهما وليسا سواءاً فلغة القرآن هي لغة كلام الله تعالى القديم المطلق المتحدى به ، المتعبد بتلاوته ، المعجز ، الذي لا تجوز قراءته ولا روايته بالمعنى ، وهو قد نزل بلسان رسول الله r – ولا شك – ولكن اللغة حين يتكلم بها عبده ورسوله شيء آخر ، وحين ينطق بها إنسان آخر فهي شيء ثالث ؛ ولذلك ما كان ينبغي أن يشرّك بين كلام الله وكلام رسوله r في تلك الأحكام بإطلاق ودون قيود أو تحفظ ، فالفروق الدقيقة الهامة بينهما لا تسمح بذلك الإطلاق ، وإن كان كل منهما صادراً عن مشكاة واحدة . إن هذا التشريك بينهما قد أدى إلى غبش لدى البعض في فهم العلاقة بينهم بوضوح في بعض الأحيان ، باعتبار القرآن المجيد المصدر المنشئ للأحكام ، والسنة النبوية المصدر المبين على سبيل الإلزام . فليسا سواءا ، وأنه يستحيل أن يقع تعارض أو تناقض بين المبيِّن والمبيَّن . وأن القرآن مصدق لما بين يديه ومنه السنة النبوية ، ومهيمن على ذلك كله ، فهي تدور حولـه وترتبط به ولا تتقدمه . إن ذلك الغبش في تحديد العلاقة بينهما أدى إلى بروز تلك الأقوال الغثة بوقوع النسخ المتبادل بين الكتاب والسنة، أو ما كان يردده القائلون من ” الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب ” أو أنها قاضية عليه وغير ذلك من أقوال غثة غير مقبولة جعلت العلاقة بين الكتاب والسنة تبنى على الأفكار المنطقية المتعلقة ” بالقطع والظن ” لا على التحديد القرآني الدقيق الوارد في الايات ) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّـرُونَ ( (النحل:44) ، ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( (النحل: من الآية89) .

لذلك فإننا في أصول ” فقه الأقليات ” نود أن يعاد النظر في تحديد العلاقة بين الكتاب الكريم والسنة النبوية فالكتاب الكريم لابد أن يحرر من أسر الكثير من الأقاويل والتفسيرات والتأويلات ، وينبغي أن ينظر إلى لغته خارج دائرة القاموس العربي الجاهلي ، ويستنبط فقه لغته من داخله ، كما استنبط نظمه وإعجازه من داخله ، وهو ميسر تيسيراً إلهياً للمدكرين ، وإذا قيل : ” القرآن حمّال ذو وجوه ” فذلك بعض إعجازه ، وشيء من منِّ كرمه وفيضه ، والبشرية اليوم أحوج ما تكون إلى هداية هذا الكتاب – المنفتح على الزمان والمكان والإنسان ليعالج مشكلاتها ، ومعضلاتها ، ويداوي أمراضها ، ويجيب على سائر تساؤلاتها .

التعليق :

هذه الفقرة تضمنت أخطر أربع قضايا اشتمل عليها البحث :

المسألة الأولى : أن الأصوليين شرّكوا بين الكتاب والسنة وسووا بين لغتيهما .

المسألة الثانية : أن السنة لا تنسخ القرآن .

المسألة الثالثة : النظر إلى لغة القرآن خارج دائرة القاموس العربي الجاهلي .

المسألة الرابعة : أن القرآن وحده المصدر المنشئ للأحكام وأن السنة مبينة – لـه فقط – .

ونبدأ بالتعليق على هذه القضايا واحدة تلو الأخرى :

20 – المسألة الأولى : أن الأصوليين شرَّكوا بين الكتاب والسنة وأنهم سووا بين لغتيهما … إلخ .

التعليق :

علماء الأصول والفقه معروفون وكتبهم معروفة ، وهم لم يشركوا بين لغة القرآن والسنة ، وهذا معلوم للكافة خاصة وعامة ، ولم يقل أحد قديماً ولا حديثاً إن لغة القرآن الكريم مثل لغة السنة أو أنهما ألفاظ مشتركة . هذا الكلام لا معنى لـه إطلاقاً ، إذ لا قائل به .

وربما يقصد الدكتور طه دلالة القرآن ودلالة السنة ، هذا أقرب الاحتمالات لمراده ، ومع ذلك فلا تشريك بينهما في الدلالة من حيث التساوي في الحجية ، وإنما مراد الأصوليين مطلق الدلالة سواء من الكتاب أو السنة ، وإن كانا غير متساويين من حيث الثبوت ، فالقرآن قطعي الثبوت ، والسنة قد تكون قطعية الثبوت وهي الأحاديث المتواترة ، وأما الدلالة فيتفق القرآن والسنة فيهما . فدلالة القرآن على الأحكام قد تكون قطعية ، وقد تكون ظنية ، وكذلك السنة ، فإن كان لفظ القرآن لا يحتمل إلا مدلولاً واحـداً كانت الدلالة قطعية في لفظ القرآن أو السنة ، كقولـه تعالى : ) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ .. ( ، ومثل قولـه تعالى : ) وَالَّذِينَ يَرْمُـونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً   (، فالنصـف والثمانيـن ، قطعيـة في دلالتها ؛ لأنها لا تحتمل إلا مدلولاً واحداً . ومن السنة قولـه r : ” في خمس من الإبل شاة ” فلفظ ” خمس ” يدل دلالة قطعية على معناه ولا يحتمل غيره ، وقولـه تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى   ( فإنه نص قاطع على وجوب القصاص .

وأما الدلالة الظنية في القرآن والسنة فهي اللفظ الذي يحتمل عدة معاني ، كدلالة قولـه تعالى : ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ( فالقرء في الآية لفظ مشترك بين الحيض والطهر ، فيصح أن يراد به أحد هذين المعنيين ، فتكون دلالته على أحد منهما بعينه دلالة ظنية . ومن السنة قولـه r : ” لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ” فالحديث يحتمل التأويل . فيجوز أن يحمل على أن الصلاة لا تكون صحيحة مجزية إلا بفاتحة الكتاب ، ويحتمل أن المراد أن الصلاة الكاملة لا تكون إلا بفاتحة الكتاب .

وهذه الدلالة القطعية والظنية التي يشترك فيها القرآن والسنة أمثلتها كثيرة جداً في الكتاب والسنة . وليس هذا من التشريك في الأحكام بشيء وإنما هو مقتضى دلالة اللفظ العربي سواء كان في القرآن أو السنة أو في غيرهما من الاستخدامات اللغوية . فهل يا ترى هذا مراد الدكتور طه ، فإن كان هذا مراده فعبارته لا تدل عليه وهي موهمة ، وإن كان غير ذلك فعليه بيان مراده بوضوح .

وإذا تبين ذلك يتبين أن النتيجة التي بناها على هذا التشريك لا محل لها على الإطلاق ، وهي قولـه : ” إن هذا التشريك بينهما قد أدى إلى غبش لدى البعض في فهم العلاقة بينهما بوضوح في بعض الأحيان .. ” .

 

21 – المسألة الثانية : السنة لا تنسخ القرآن :

التعليق :

جمهور الفقهاء والأصوليين منهم الإمام مالك وأصحاب أبي حنيفة والأشاعرة والمعتزلة على أن السنة تنسخ القرآن إذا كانت متواترة ؛ لأن المتواتر قطعي الثبوت كالقرآن ؛ ولأن النسخ بيان انتهاء العمل بالحكم ؛ ولأن المقرر عند الأصوليين النسخ قصره على بعض الأزمنة ، والتخصيص إخراج من عموم الأفراد ، والنسخ إخراج من عموم الأزمان . ومن نسخ القرآن بالسنة قولـه r : ” لا وصية لوارث ” فإنه ناسخ لقوله تعالى : ) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ  ( فالآية جعلت الوصية للوالدين والأقربين ، والسنة رفعت هذا الحكم .

وأما السنة المشهورة فقد أجاز بعض الحنفية نسخ القرآن بها لقربها من السنة المتواتر ، أما سنة الآحاد فلا يجوز نسخ القرآن بها على الراجح .

وقد خالف الشافعي الجمهور فمنع أن تكون السنة ناسخة للقرآن ؛ لأن القرآن لا ينسخه إلا قرآن مثله .


 

ومن الفقهاء من يمنع وقوع نسخ السنة للقرآن ، فينفي وقوع شواهده

ونشير إلى عبارة الدكتور طه ” … النسخ المتبادل بين الكتاب والسنة يفيد بأن النسخ لا يقع أيضاً من الكتاب للسنة ، ولا شك أنه لا يريد ذلك ؛ لأنه خرق للإجماع ، ولكن العبارة خانته وهي ليست دقيقة.

بعد هذا نقول :

من حق الدكتور طه أن يرجح مذهب الإمام المطلبي ، فهو إنما يلوذ بركن حصين ، وجبل من العلم أشم ، وكثير من الفقهاء والأصوليين لاذوا به ، لكن ليس من حق الدكتور ولا حتى مـن الأدب القليل أن نصف مذهب أو أقوال أئمتنا بأنها ” غثة ” ، والغث : الحديث الرديء ( الفاسد ) كما قال صاحب مختار الصحاح .

فأئمتنا مالك والحنفية وأحمد في رواية ومن وراءهم من جمهور الفقهاء والأصوليين ، أساطين العلم وبحوره الزاخرة كلهم قالوا بجواز نسخ القرآن بالسنة مستندين إلى نصوص من الكتاب والسنة ، فكيف تكون أقوالهم غثة ؟ .

ونحن إنما ننصرهم بالقول لوجوبه علينا ، وإلا فإن رمي بحور العلم بساقط القول لا يضيرهم ، لكنه لا يليق . وقريباً قال شوقي :

ما يضير البحر أمسى زاخراً              أن رمى فيه وليـد بحجر

لكننا نستكثر ونستهجن أن نسمع هذا الأذى من عالم أصولي فقيه ، وإن سمعنا هذا من هذا ، فما يضير ما نسمع من طلبة علم يطعنون بالأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي ، وماذا بقي لنا بعدهم من رأس مال ، ونحن إنما نشد القول على أخينا ههنا ؛ لأنه موضع نصرة ، والحق أحق أن يتبع. 

 

22 – المسألة الثالثة : النظر إلى لغة القرآن خارج دائرة القاموس العربي الجاهلي :

التعليق :

هذه دعوة غريبة عجيبة . دعوة إلى – كما قال – تحرير القرآن الكريم من أسر الكثير من الأقاويل والتفسيرات والتأويلات ،ويتبع ذلك بقولـه : ينبغي أن ينظر إلى لغته خارج دائرة القاموس العربي الجاهلي ، ويستنبط فقه لغته من داخله، كما استنبط نظمه وإعجازه من داخله ، وهو ميسر تيسيراً إلهياً للمدكرين..

ما المراد بتحرير القرآن الكريم من أسر الكثير من الأقاويل والتفسيرات والتأويلات .. كلام في غاية الإبهام والإيهام ، ما هي هذه الأقاويل ؟ ، وما هي هذه التفسيرات والتأويلات ؟ ، وكيف أصبح القرآن أسير ذلك كله . هذا كله يحتاج إلى بيان حتى يمكن مناقشته والتعليق عليه .

وتأتي الدعوة الأعجب من هذه وهي الدعوة إلى أن ينظر إلى لغة القرآن خارج دائرة القاموس العربي الجاهلي . وهذا يعني فهم لغة القرآن العربية من خارج اللفظ العربي الأصيل ، وهذا تناقض فاحش ، القرآن أنزله الله بلسان عربي مبين، وإعجازه أنه خاطب العرب الجاهليين ، وقد بلغت اللغة عندهم أعلا مراتب البيان، حتى غدت سلعتهم المفضلة يتفاخرون بها ، ويتبارون في أشعارها ، ويقيمون لها الأسواق والمواسم ، فجاءت لغة القرآن لتتحداهم فيما نبغوا فيه ، ودعاهم القرآن إلى التحدي فعجزوا ، وهذا معلوم لكل قارئ ومثقف لا يحتاج إلى شواهد وأدلة ، فكيف نفهم لغة القرآن خارج هذا القاموس العربي الجاهلي .

ولا يكتفى بهذا ، بل يتبعه بما هو أعجب من مجرد فهم لغة القرآن ، بل يدعو إلى استنباط فقه لغته من داخله ، كما استنبط نظمه وإعجازه من داخله .

والسؤال هو : من هذا الذي فاق ابن جني والخليل وأضرابهم حتى ينظر إلى فقه لغة القرآن من داخله ؟ .

إن الدكتور طه  يجيب بطريقة غير مباشرة بقولـه والقرآن ميسر تيسيراً إلهياً للمدكرين ، هذا جد صحيح ، ولكن من هم أولئك المدكرون إن لم يكونوا من أرباب اللغة المتمرسين بألفاظها وأساليب البديع والبيان والنحو والصرف وما إلى ذلك . من الذي سيستنبط فقه اللغة من داخل القرآن ليستخرج لنا أحكاماً لفقه الأقليات ؟ أين ذهبت شروط المجتهدين وهم من لهم حق النظر في لفظ القرآن والاستنباط منه ؟ واللغة أحد أهم الشروط اللازمة للاجتهاد ، وقد أجمع كل من كتب في شروط المجتهد من الأصوليين على ضرورة معرفة اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة ، ومعرفة تراكيبها ومعاني مفرداتها ، وكل واحدة منها فن قائم بذاته ، ويكفي التنويه بالأخير منها وهو معاني المفردات .

يقول الراغب الأصفهاني : ” إن أول ما يُحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللغوية ، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة ، فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللّبن في كونه من أول المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه ، وليس ذلك نافعاً في علم القرآن فقط ، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع ، فألفاظ القرآن هي لبُّ كلام العرب وزبدته ، وواسطته وكرائمه ، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم ، وإليها مفزع حُذَّاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم ” .  ثم كيف سيستنبط فقه اللغة وبناء أحكام للأقليات وهو لا يملك أهم أداة فيه وهي لغة القرآن ، ويستحيل أن يكون مجتهداً ولم يفقه اللغة على وفق لغة القاموس العربي الجاهلي . يقول الإمام الشافعي مبيناً شروط المجتهد الذي يقيس ويستنبط : ” لا يقيس إلا من جمع الآلة التي لـه القياس بها ، وهي العلم بالأحكام كتاب الله ، فرضه ، وأدبه ، وناسخه ، ومنسوخه ، وعامه ، وخاصه ، وإرشاده ، ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله r ، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين ، فإن لم يكن إجماع فبالقياس . ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف ، وإجماع الناس ، واختلافهم ، ولسان العرب … ” .

نحن مع الدكتور طه في أن البشرية اليوم أحوج ما تكون إلى هداية هذا الكتاب ؛ ليعالج مشكلاتها ومعضلاتها ، ويداوي أمراضها ، ويجيب على سائر تساؤلاتها ” ولكننا لسنا معه أن طريق ذلك تحرير القرآن من أسر الكثير من الأقاويل والتفسيرات والتأويلات والنظر إلى لغة القرآن خارج دائرة القاموس العربي والجاهلي ” ، فما تعانيه البشرية علاجه في القرآن لمن يفهم معانيه وبيانه وإعجازه على وفق ضوابط الاستنباط وممن هو أهله من أهل الاجتهاد . لا لكل مدّكر .

 

23 – المسألة الرابعة : أن القـرآن المصـدر المنشيء وأن السنة مبينة …

إن الدكتور طه قد أكد هذا المعنى بحيث لا يحتمل إلا أنه يريد القول بأن السنة بيانية غير منشئة للأحكام استقلالاً ، وقد تكرر ذلك في ثمانية مواضع نقتصر على ذكر نصين صريحين بالإضافة إلى ما ذكر في هذه الفقرة .

النص الأول : لقد بينا في هذه الدراسة الوجيزة أهم ما يمكن استفادته من الفقه الموروث ، وما يمكن البناء عليه بعد وضعه في سياق القرآن المجيد والسنة النبوية الصحيحة الثابتة المبينة لـه . والتصديق على ذلك الفقه بالكتاب والسنة المتعاضدين باعتبار القرآن مصدراً منشئاً ، والسنة مصدراً مبيناً ، والهيمنة بالقرآن المجيد على الفقه الموروث ، ومراجعته على هديه لا العكس .

إن المطلع على تاريخ الفقه يرى كيف كان الفقه مستمداً في الصدر الأول من القرآن إنشاءاً ومن السنة بياناً .

النص الثاني : لم يرتب بعض فقهائنا المتقدمين مصادر التشريع الترتيب الدقيق الذي يعين على حسن الاستنباط منها لقضايا العصر ؛ والترتيب المقترح لهذه المصادر يقضي باعتبار القرآن الكريم أصل الأصول ، ومنبع التشريع ، والمصدر التأسيسي المهيمن على كل ما سواه ، والمقدم على كل ما عداه عند التعارض : فهو المصدر المطلق المنشيء والكاشف عن الأحكام ، لا يطرأ عليه نسخ ، ولا يقوم لمعارضته غيره . كما يقضي هذا الترتيب اعتبار السنة النبوية مصدراً بيانياً ملزماً يتكامل مع بيان القرآن لنفسه ويفصله ويتبعه ويطبقه في الواقع، لتقديم الأسوة والنموذج .

التعليق :

لقد أقحم الدكتور طه نفسه في موضوع فرغ منه الفقهاء والأصوليون ، وانعقد على خلافه رأي جماهير علماء الأمة ، بل إن الإجماع منعقد على العمل بالأحكام التي استقلت السنة بها ، ونسوق فيما يلي طرفاً مما ذكره أهل النظر والاجتهاد على أن سنة النبي r تستقل بالأحكام وتنشؤها .

فنبين أولاً : أنواع السنة من حيث دلالتها على ما في الكتاب وعلى غيره .

وثانياً : أدلة استقلال السنة بالأحكام .

وثالثها : خاتمة من كلام الدكتور طه .

أولاً : أنواع السنة من حيث دلالتها على ما في الكتاب وغيره :

من المعلوم أن ما جاء عن الله تعالى لا يمكن أن يكون فيه اختلاف ؛ وكل – من القرآن والسنة – من عنده عز وجل .

فلا يمكن أن توجد سنة صحيحة الثبوت عن رسول الله r ، تخالف الكتاب في الواقع ، وإن حصلت مخالفة في ظاهر اللفظ : لأن المراد من أحدهما – حينئذ – عين المراد من الآخر . كل ما في الأمر : أن هذا المراد قد يخفي في بادئ الرأي على المجتهد .

وعلى ذلك فالسنة مع الكتاب – من حيث دلالتها على ما فيه ، وعلى غيره – على ثلاثة أنواع . كما ذكره الشافعي في الرسالة وتبعه الجمهور عليه .

النوع الأول : سنة دالة على الحكم كما دل عليه الكتاب من جميع الوجوه ؛ فهي موافقة لـه من حيث الإجمالي والبيان ، والاختصار والشرح ؛ وواردة معه مورد التأكيد لـه . مثل قوله r : ” بني الإسلام على خمس ” الحديث . مع قولـه تعالى : ) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ( ؛ وقولـه : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ( ؛ وقولـه : ) وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ( من حيث الدلالة على وجوب كل – من الصلاة والزكاة والصوم والحج – مع عدم بيان كيفيتها . ومثل قوله r : ” لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه ” . فإنه يوافق قولـه تعالى : ) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( . ومثل قولـه : ” اتقوا الله في النساء ، فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ” فإنه يوافق قولـه تعالى : ) وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( .

النوع الثاني : سنة مبينة لما في الكتاب ؛ كأن تفصل مجمله ، أو توضح مشكله ، أو تقيد مطلقه ، أو تخصص عامه ، كالأحاديث التي فصلت مجمل الصلاة والزكاة ؛ والأحاديث التي أفادت أن المراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود في قولـه تعالى : ) حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ  ( : بياض النهار وسواد الليل .

فالنوع الأول والثاني – من التقسيم الثلاثي – متفق عليهما بين المسلمين عامة ، وأن النوع الثالث مختلف فيه بينهم . كما صرح بذلك الشافعي t في الرسالة ، حيث قال : ” فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سنن النبي r من ثلاثة وجوه . فاجتمعوا منها على وجهين : والوجهان يجتمعان ويتفرعان – ” .

أحدهما : ما أنـزل الله فيه نص كتاب ، فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب ” .

والآخر : ما أنزل الله فيه جملة كتاب ، فبين عن الله معنى ما أراد ” .

وهذان الوجهان : اللذان لم يختلفوا فيهما “.

والوجه الثالث : ما سن رسول الله r فيما ليس في نص كتاب .

فمنهم من قال : جعل الله لـه – بما افترض من طاعته ، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه – أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب .

ومنهم من قال : لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب ، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة ، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من الشرائع ؛ لأن الله تعالى قال : ) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( ، وقال : ) وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ( . فما أحل وحرم : فإنما بين فيه عن الله كما بين الصلاة ” .

ومنهم من قال : بل جاءته به رسالة الله فأثبتت بفرض الله .

ومنهم من قال : ألقي في روعه كل ما سن ، وسنته : الحكمة الذي ألقي في روعه عن الله ، فكان ما ألقي في روعه سنته .

فأنت ترى من حكايته لهذه الأقوال – في النوع الثالث – : أن القول الأول والثالث والرابع ، على اتفاق في أن السنة قد تستقل بالتشريع ، ومختلفة في أن النبي r يشرع المستقل من عند نفسه مع توفيقه تعالى لـه للصواب ، أو ينزل عليه الوحي به ، أو يلهمه الله إياه . ( وهذه الخلافية لا تعنينا هنا ) وأن القول الثاني هو المخالف في الاستقلال .

وهذا ما يحتاج إلى بيان وجه الحق والرد على من قال به ، وفيما يأتي بيانه .

 

24 – ثانياً : أدلة استقلال السنة بالأحكام :

أولها : عموم عصمته r بالمعجزة الثابتة عن الخطأ في التبليغ لكل ما جاء به عن الله تعالى ، ومن ذلك ما وردت به السنة وسكت عنه الكتاب . فهو إذن : حق مطابق لما عند الله تعالى ولما حكم به ، وكل ما كان كذلك ، فالعمل به واجب.

ثانيها : عموم آيات الكتاب الدالة على حجية السنة ، فهي تدل على حجيتها، سواء أكانت مؤكدة أم مبينة ، أم مستقلة . وقد كثرت هذه الآيات كثرة تفيد القطع بعمومها للأنواع الثلاثة ، وبعدم احتمالها للتخصيص ، بإخراج المستقلة.

بل إن قولـه تعالى : ) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً  (. يفيد حجية خصوص المستقلة .

ثالثها : عموم الأحاديث المثبتة لحجية السنة مؤكدة كانت أو مبينة أو مستقلة ، مثل : ” عليكم بسنتي ” ، وهي – بتكاثرها – تفيدنا القطع بهذا العموم .

وقد ورد ما هو خاص بالسنة ، أو يكون – على أقل تقدير – دخولها فيه ، متبادراً في النظر ، وأولى من دخول غيرها .

فمن ذلك حديث : ” لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، ياتيه الأمر من أمري ، مما أمرت به ، أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ” .

وحديث : ” ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال ، فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام ، فحرموه ، وإن ما حرم رسول الله ، كما حرم الله ، ألا لا يحل الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها . ومن نزل بقوم ، فعليهم أن يقروه ، ولـه أن يعقبهم بمثل قراه ” .

ولا يخفى أن تحريم الحمر الأهلية والمذكور معها ، ليس في القرآن ، فهو خاص بما نحن فيه .

ولا يخفي أيضاً أن الظاهر من قولـه : مثل الكتاب . ما كان مستقلاً عنه ، وإن سلمنا شموله لغيره أيضاً ، فلا ضير علينا ، حيث إنه أثبت أن الجميع من عند الله .

والحديث الآخر يفيدنا : أن كل ما لا يوجد في كتاب الله – مما أمر به الرسول أو نهى عنه – ، فتركه مذموم منهي عنه . وذلك يستلزم الحجية . والمتبادر من عدم الوجود أن لا يكون مذكوراً في الكتاب لا إجمالاً ولا تفصيلاً .

رابعهاً : إجماع الأمة على وجوب العمل بهذا النوع ، وحجيته .

وبيان ذلك : أن المسلمين قد أجمعوا على أحكام فرعية ، لا مستند لها إلا هذا النوع ، وإجماعهم على الأخذ منه ، والاستناد إليه ، يستلزم إجماعهم على حجيته .

حتى هؤلاء المخالفون في هذه المسألة ، يُلزمون بالقول بحجيته ، وبأنهم داخلون في دائرة المجمعين على حجيته ، فإنا إذا ذكرنا لهم مسألة فرعية – من المسائل المجمع عليها – وسألناهم عن مذهبهم فيها – فلا يمكنهم أن يكابروا ويخالفوا إجماع من تقدم ، وإنما يقولون بالحكم المجمع عليه فيها .

فإذا سألناهم عن مستند إجماع من تقدمهم ، اضطروا إلى الاعتراف بأنه حديث مـن النوع الذي نتكلم فيه . كل ما في الأمر أنهم حينئذ يكابرون ، ويقولون : إنه لا يخرج عن كونه بياناً ، وليس بمستقبل . وهذا منهم لا يضرنا ما داموا يعترفون بحجيته ، وما دمنا سنبين أنه مستقل .

فمن هذه الأحكام : ما كان من إقرار أبي بكر t من كون الجدة – أم الأم، أو أم الأب – ترث ، وكونها تأخذ السدس ، فهذا قد انعقد إجماع الأمة عليه ، ومستنده السنة المستقلة ، وليس بموجود في الكتاب .

وهذا عمر t يفعل ما فعل أبو بكر لما سألته أم الأب ، وقد روي عن عمر t حوادث كثيرة من هذا النوع ، أفبعد هذا يكابر المكابرون في حجية هذا النوع ، أو في أنه موجود ؟! ألا يرشد قول أبي بكر t هذا ، وإجماع الصحابة … وهم أخبر الناس بلغة القرآن ، ومعاني الأحكام ، وقواعد الدين الكلية إلى أن محاولة هؤلاء جعل هذا النوع من السنة المبينة ، جديرة بالإهمال وعدم استحقاق النظر فيها .

ومن هذه الأحكام : مشروعية الشفعة والمساقاة ، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، وكذا تحريم الحمر الأهلية على ما ذكره ابن عبد البر من أن الإجماع قد انعقد عليه بين المتأخرين وغير ذلك كثير .

على أنه ليس من الضروري في بيان الإجماع على حجية هذا النوع : أن نثبت إجماعهم على أحكام فرعية مستندة إليه ، بل يكفي أنه لا يوجد إمام من أئمة المسلمين ، إلا وقد استدل على حكم ما – من الأحكام الفرعية – بحديث ما من هذا النوع ( كما يظهر للمتتبع لمذاهبهم وكتبهم وآثارهم ) وهذا منهم يستلزم إجماعهم على العمل بهذا النوع ،وحجيته ، وإن اختلف شخص المعمول به .

وللشافعي t كلمتان رزينتان هادئتان ، قاطعتان لألسنة الخصوم على أي مذهب كانوا ، مستأصلتان جذور الشغب والنزاع على أي لون كان .

قال – جزاه الله عن الإسلام والمسلمين أفضل ما جزى به المجاهدين المخلصين ) قبل أن يذكر المذاهب في النوع المستقل – : ” وما سن رسول الله t فيما ليس لله فيه حكم ، فبحكم الله سنه ، وكذلك أخبرنا الله في قولـه ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ  (.

ويقول الشوكاني : اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام ، وثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ لـه في دين الله


 

 

25 – ثالثاً : وهي خاتمة للموضوع :

ونستل هذه الخاتمة من مقدمة الدكتور طه جابر العلواني لكتاب حجية السنة لشيخه وشيخنا العلامة عبد الغني عبد الخالق ، وهي مقدمة راقية جاء فيها في معرض انتصار الشيخ عبد الغني للسنة وحججه في الرد على الخصوم ، ولا تعليق للدكتور طه على ما قالـه الشيخ ، والمقام مقام تعليق ، قال :

[ وبعضهم يزعم : أن ما جاءت به السنة لا ينبغي أن يعمل به إلا بعد معرفة سائر ظروف وروده ، وأسباب ظهوره ، وسائر ما يمكن أن يكون لـه أثر في دلالته عندهم ، وأن السنة إذا دلت على حكم لم يدل القرآن عليه لم يؤخذ بها ، وإن الحديث يجب أن يعرض على عقولهم الجامدة فإن تلقته تلك العقول القاصرة ، والأفئدة المريضة بالقبول صح وعمل به ، وإن أغلقت عقولهم الكليلة دون أبوابها فليترك وليهمل .

ولقد عالج الشيخ العلامة عبد الغني عبد الخالق أبو الكمال ذلك – كله – بسفره العظيم هذا وشفى وكفى ، فأثبت أن كل ما تلفظ به رسول الله r ( ما عدا القرآن ) أو ظهر منه – في الواقع ونفس الأمر – من ابتداء رسالته إلى آخر لحظة في حياته r – فهو من سنته ، سواء أثبت حكماً عاماً لسائر أفراد الأمة – وهذا هو الأصل – أم أثبت حكماً خاصاً به r ، أو خاصاً بأصحابه رضي الله عنهم ، وسواء أكان فعله r جبلياً فطرياً ، أم كان غير جبلي – فما من قول أو فعل يصدر منه r إلا ويثبت حكماً شرعياً يجب اعتقاد ثبوته ، بقطع النظر عن كونه إيجاباً أو ندباً أو تحريماً أو كراهة ، ولم يدع – تغمده الله برضوانه – أية مسألة ذات علاقة أياً كانت بحجية السنة إلا تناولها بما تستحقه من البحث والتمحيص ، فتعرض لمسألة ” مساواة السنة للكتاب في الحجية ” ، كما تعرض لمسألة ” استقلال السنة بالتشريع ” مفنداً آراء من نازع في ذلك من أهل العلم .


 

هذا .. وأكتفي بهذا القدر من التعليقات على بحث ” مدخل إلى أصول وفقه الأقليات ” ، وما ابتغيت من ذلك – علم الله – إلا النصح لكتاب الله تعالى وسنة نبيه r ، ورفع اللبس والتشويش الذي رأيته – من وجهة نظري – ولا أظن الدكتور طه إلا متسعاً صدره لما علقت ، فهو مجتهد فيما ذكر ، وما ابتغى إلا النصح لكتاب الله وسنة رسوله r ، آملاً أن يعيد نظره فيما كتب ، فيما هو محل النظر ، فما كان من تعليق مبني على أدلته ، فإنه لن يعدوه حتى يصحح رأيه ، وما رأى عدم صوابه وضحه وبينه في موضعه ، وكلي أمل ألا ينشر البحث على ما هو عليه إلا ومعه هذه التعليقات ؛ ليكون للناظر مساحة للتدبر وترجيح أحد النظرين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات .


 

شاهد أيضاً

الوطن والمواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية

الوطن والمواطنة في ميزان الشريعة الإسلامية

التحوط في المعاملات المالية

بحث التحوط في المعاملات المالية

تحويل البنوك التقليدية لبنوك اسلامية ( المبادئ والضوابط والإجراءات )

تحويل البنوك التقليدية إلى بنوك اسلامية